خضير فليح الزيدي يبعث في روايته حياةً جديدةً في بطله الغائب بما معروف عنه من متعة في النسج لحوارته الغرائبية وباسلوبه الغني بالشاعرية وبلغة سلسة قوية مُعبرة.
رواية بنات غائب طعمة فرمان هي من نصوص التجريب والكشف عن مساحات جديدة في عالم الرواية وبنائها الأسلوبي. تخترق هذه السردية التاملبة ثوابت الرواية؛ من خلال خلخلة للثوابت وإعادة نظر في يقينيات ثقافتنا الحكائية المُشبعة بالجاهز،
وان اهتمام الكاتب الزيدي بتجديد الشكل الفني، بالإضافة إلى احتفائه بالخيال المولد للعمل الفني البادي على شكل أسئلة وقلق ومكاشفة صادمة يحيلنا إلى معنى “التغريب” بمعنى إخراج الكاتب نصه السردي من حيز الوجود إلى فضاء الفن.
الكاتب الزيدي في هذه الرواية جعل المتلقي مشاركاً في إنتاج النص ومغنياً أبعاده من خلال تأويل نصه التخيلي، من خلال تمثل شخصية الكاتب الكبير غائب طعمة فرمان أو ماتحمله تلك الشخصية من دلالة رمزية يمكن أن تشير إلى خيال المبدع حين اعاده إلى الحياة ثانية
لأننا علمنا من الراوي السارد أن هناك رواية لم تكتمل للكاتب هي عبارة عن مخطوطة ، ربما تكون إشارة إلى تصورات الكاتب وتفكيره بشخصيات أعماله وسماتها قبل البدء بالكتابة.ليس هذا فحسب، بل هناك شخصية تدعى بارت ومحاولاته إكمالها.
وهنا تضعنا الرواية في حالة من الشك والالتباس؛ لأنها تتبع سرداً حداثياً يتسم بالزوغان والمراوغة، وهنا يحق لنا أن نتساءل: عن شخصيات الرواية وهم صور متخيلة لكائنات مصنوعة من الكلمات استطاعت أن تتجاوز طبيعتها القولية الخالصة، وتحاكم الكاتب الذي خلقها.
وما يلفت النظر في الرواية هو أبعادها الرمزية، فنحن لا نتعامل مع شخوص الرواية استناداً إلى إحالاتها المرجعية المباشرة؛ ثمة أشياءُ مضمرةٌ يكمن فيها المعنى الحقيقي الذي قصده المؤلف، لأن مضمون الرواية المفتوح على التأويل قد يشير إلى مقاصد وقراءات متعددة.
الكاتب قام بمهمات صعبة أراد أن يقول لنا: لا يوجد شيء ثابت في الفن، فكل شيء قابل للشك والافتراض وإعادة التشكل. ومما لا شك فيه أن الرواية احتفت بالتجريب، وكل عمل تجريبي يشكل تحدياً للقارئ يلاحقه، ويرهقه، ويدعوه إلى مغامرة الفهم المغاير وبالتالي تشكيل الوعي المغاير. ويبدو لنا أن الروائي حين ترك مساحات فارغة وأسئلة مُعلقة في روايته حرض القارئ على ملء الفراغات، وتقديم إجابات لا تعد نهائية لكنها ممكنة، هنا يأتي دور القراءة المكملة لما لم يُفصح عنه الكاتب بصورة مباشرة، أو لما تركه من مساحات صمت وفراغ يملؤها القارئ وفق ثقافته ورؤاه، وما يمليه عليه سياق الأحداث في الرواية. وهكذا تصبح مهمة القراءة عسيرة، وأن تبني القارئ وعياً يقظٍا يدرك أن مكونات النص الروائي لا تنتهي مع انتهاء السرد، بل تبقى في صيرورة لا تتوقف.
وباختصار نقول: إن الرواية اهتمت بأمرين يسيران على خطين متوازيين؛ الأمر الأول: الاشتغال على آليات الكتابة السردية، وجماليات النص المختلف.
اما ثيمة العمل الروائي تقول ان الشخصيات تأتي من عالمها المُتخيل؛ لتحاسب خالقها على وضعها في رواياته. وهنا تتمرد الشخصيات على كاتبها لأنه مارس عليها الضغط الأيديولوجي حين أرسلها في مهمات لا ترغب فيها، وهذا يتناقض مع الطبيعة الإنسانية المفطورة على حرية التفكير واتخاذ القرار؛ لذلك أرادت أن تتحرر من المهمات والأطر الأيديولوجية التي وضعها الكاتب فيها، ربما لأن لديها مهمة أوسع وأعمق.من يدري..
وختاما اقول استطاع الكاتب أن يبعث حياةً جديدةً في بطله الغائب بما معروف عنه من متعة في النسج لحوارته الغرائبية وباسلوبه الغني بالشاعرية وبلغة سلسة قوية مُعبرة.
وينبغي ألا يفوتنا الحديث عن طرفي الصراع في الرواية: الطرفِ الأول هو الشخصيات الروائية المتخيلة التي لا تستطيع أن تقرر حياتها، أو تملكها، بل تتحرك وفق مشيئة الراوي، والطرف الثاني: هو الراوي/السارد الذي جعل الكاتب قناعاً يعبر من خلاله عن رؤيته للعملية الإبداعية؛ فهو يرى أن الشخصيات الروائية يُكتَب لها الخلود لأنها ستُروى بعد موت مبدعها؛ لأنه أصبح شخصية مُتَخيلة وجزءاً من الحكاية التي يرويها الراوي/السارد: “لكن التناقض هو أننا، نحن، الأخيلة الملفقة لعقل آخر، بهذا التصور تكون الكتابة ـ كما رآها كاتبها انتصاراً على وجودنا الزائل”.
ميدل إيست أونلاين