الرواية .. هل أصبحت أسطورة الإنسان المُعاصر؟
إدراك ما وصل إليه فنّ الرواية منذ ظهوره من التطوّر حتى الآن قد لا يتطلّب من المتابع جهداً كبيراً. صحيح أنَّ هناك أسماء روائية قد أصبحت علامة في مجال كتابة هذا النوع الأدبي، وغالباً ما يُشارُ إلى منجز هؤلاء بوصفه عملاً تأسيسياً، لكن الإقرار بعبقرية الروّاد ودورهم في الدفع بالرواية نحو التطوّر وتجديد آلياتها لا يعني توقّف الفتوحات الإبداعية وإنسداد الأفق نتيجة تكامل المشروع الروائي.
لا يزال هذا الفضاء مُشرّعاً أبوابه على المزيد ويتمدّدُ أكثر مع إحداثيات العصر، وما يضمنُ السيرورة في الإبداع الروائي هو أنَّ الإكتمال ليس قدراً لهذا الجنس الأدبي وثيماته.
ويعتقدُ ميلان كونديرا أنَّ شكل الرواية حرية غير محدودة، والمعنى أنَّ رغبة الإكتشاف لصيغ مُختلفة دافع لكتابة الرواية كما أنَّ هذا الفن لا يعاني ممّا يمكن تسميته بالعجز في الأدوات. ويستمدُ العمل الأدبي تميّزه ليس في أن يلهمك بما تفوّقَ في إنجازه بل فيما أراد قوله ولم يبلغهُ على حدّ تعبير مؤلف “فالس الوداع“.
المفارقة
وبرأي الناقد البريطاني سومرست موم، فإنَّ الرواية شكل تشوبه العيوب ولا يوجدُ عمل روائي بالغ الكمال، ومن المُفارقة أن تتحوّل العيوب الكامنة في فنّ الرواية إلى مروحة لتطوّره. ولمعرفة الأشواط التي قطعتها الرواية، ما علينا سوى مقارنة الإهتمام الذي تحظى به في زمننا بما كانت عليه سابقاً، إذ يشير سومرست في كتابه “روائيون عظام ورواياتهم” إلى أن جون أوستن رفضت نشر أعمالها الروائية باسمها نظراً إلى ما تحتلّه الرواية من مستوى متدنٍ في سلّم تراتبية الفنون. والحال لا تختلفُ كثيراً على الصعيد العربي، حيثُ تم إصدار أول رواية عربية باسم مُستعار، ويعزو الباحث السعودي معجب العدواني نشر طليعة كُتّاب الرواية لأعمالهم متستّرين بأسماء مُستعارة إلى إحتقار بعض شرائح المُجتمع العربي للسرد وتهميشه.
واليوم، لا يضاهي فن آخر الرواية على مستوى إستقطابه لجمهور عريض من فئات وشرائح مُختلفة، كما اكتسحت الرواية المشهد الثقافي ويتمُّ النظرُ إلى رهاناتها المُستقبلية على ضوء ما تُرافق الثورة المَعلوماتية من الفرص والتحديات.
هنا، لا بُدَّ من السؤال عن السرّ وراء هذه الطفرة في الإهتمام بالرواية، ولماذا عُقد لها لواء السبق من بين الأجناس الأدبية الأخرى؟ هل يصحّ فهم الإقبال على قراءة الرواية على المستوى العالمي بالإستناد إلى العامل التجاري كون الرواية أكثرَ إستجابةً لمُتطلبات السوق؟ أو أنّ الرواية حلّت مكان الأساطير والأيدولوجيا، وبالتالي كلما ازداد الشعور بالإغتراب لدى الفرد يكون أكثرَ افتتاناً بالعوالم المُتخيلة؟ أو أن التعدّدية المعرفية في الرواية هي العنصر الأساسي في إنتشارها؟ وهل يريدُ القارئ من خلال الإلتحام بالكون الروائي تعويض محدودية حياته؟ طبعاً، ليس الهدف من الأسئلة الوصول إلى الإجابات الجاهزة بقدر ما أن الغرض من طرحها هو إعادة النظر والتأمل في الظاهرة.
شغف بالحكاية
الرغبة لسرد الحكاية وتلقيها صفة مُتأصّلة في الذات البشرية، ووصل شغف الإنسان بالحكاية إلى درجةٍ يجدُ فيها حلّاً للأزمات المُطلسمة، كما أخذت القصة في النصوص الدينية دوراً محورياً ولها وظائف مُتعدّدة، ولعلَّ في الإشارة إلى هدهد سليمان الذي لولا تمكّنه لسرد حكاية عجيبة لكان من الهالكين دلالة بليغة على تأثير وفاعلية القصص. ومن هنا يمكنُ فهم مضمون مقولة أليساندرو باريكو بأن “الأحداث بلا حكاية لا وجود لها”، لأنَّ ما يعطي الديمومة للحدث ليس زمن وقوعه أو الفاعلون في ملابساته بل تداوله في صيغ قصصية.
ويرى باريكو في محاولة اسكندر الأكبر للإنتحار غرقاً خلال مرضه رغبة لإسباغ المصداقية لحكايته بأنَّه من سلالة الآلهة، فقد كان يؤسفه أن يراه جنوده متحوّلاً إلى جثة هامدة. وفضّل الفيلسوف اليوناني أميتروفليس أن يترك وراءه حذاءه عندما ألقى بنفسه في فوهة البركان حتى لا تضيع قصة إنتحاره.
هذه النماذج المذكورة آنفاً تبيّن إحتياج الإنسان إلى القصة سواء أكان في موقع الراوي أو المروي له. وهذا ما يفسّر جانباً من تعاظم الإهتمام بفنّ الرواية بوصفه قصّة طويلة. ويتناول ميلان كونديرا هذا الموضوع من منظور أعمق، فوجود الرواية حسب رأيه هو حمايتنا من نسيان الوجود وأنّ الثقب الأسود الذي أشار إليه هوسرل في المعرفة العلمية قد يجعل الرواية ضرورة مُلحّة طالما هي السبيل الوحيد لعدم النسيان. وهي تقدّمُ ما يستحيلُ لغيرها تقديمه. إذ تستوعب الرواية الشعر والأجناس الأدبية الأخرى إضافة إلى الفلسفة والعلوم دون أن تخسرَ خصوصيتها. ويحدّد ميلان كونديرا وظيفة الرواية الأساسية المُتمثّلة في البحث عن الوجود بإعتباره حقل الإمكانات البشرية. وبدوره، اعتبر كولن ولسن الرواية ثورةً في خيال البشرية وما مرّت به أوروبا من التحوّلات والتطوّر على الصعيد السياسي والصناعي كان نتيجةً لإنعتاق الخيال من قيود واقع محدود بفضل الرواية.
مبدأ المُتعة
إذا كان مدار الكلام إلى الآن حول أهمية الرواية ودورها في حياة الإنسان، فمن الضروري الإلتفات أيضاً إلى شقّ آخر من الموضوع وهو الغاية من قراءة الرواية. تتباين الرؤى بهذا الشأن، إذ يرى سومرست أنّ الدافع الأساسي لقراءة الرواية هو المتعة، ولا يجدُ في فنّ الرواية بديلاً لهذه الخاصية، أي يجبُ أن تكونَ مُمْتِعة ومن العبث بنظره إعتبار الرواية مصدراً للتثقيف والتعليم.
وفي المقابل، الغرض من متابعة الرواية لدى كولن ولسن إلى جانب المتعة هو تراكم التجارب والتعليم وما يتحقّق عبر قراءة الرواية مطابق لما يكتسبه المرء من دراسة أفكار الفيلسوف. والرواية برأي صاحب “اللامنتمي” لا تقتصرُ فوائدها على المتلقّي بل تساعد الكاتب على هضم تجربته الذاتية.
ويشبّه الكاتب الأميركي جورج سيمنون قراءة الرواية بالتطلّع من ثقب المفتاح لمعرفة ماذا يفعل الجيران وبما يفكرون، وهل لديهم عقدة النقص نفسها والرذائل نفسها؟ ويفسّر الأكاديمي الأميركي آدم كيرش الولع الطاغي بالرواية في عصرنا بأنَّه مسعى لحماية القيَم الليبرالية لأنَّ عالم الرواية يتّصفُ بالديموقراطية وتتجاور فيه المُتناقضات، ولا مجال للأُحادية في التفكير والتعبير أو هيمنة لون معيّن على فضاء العمل.
عطفاً على كلّ ما سبق الإشارة إليه، فإنَّ الإهتمام بالأحداث المستوحاة من الواقع في صيغة سردية مُتخيّلة يفوق على ما يسمعهُ أو يشاهده المتابع بطريقة مُباشرة وإلّا على ماذا يراهنُ الروائيون في مُغامرة تأليف أعمالٍ مُستقاة مادتها من وقائع ما سُمّي بالربيع العربي؟ وفي الحديث عن أسباب القراءة لا يجوزُ تجاهل إختلاف مستويات التلقي والفرق بين الذائقة الحسّاسة والساذجة في إدراك العمل الروائي.
ميدل إيست أونلاين