نوافذ

الزرقة

قال لها: اليوم أكملت السقف في الشقة التي سنسكنها. إنها مطلة على الغابة. أنت تحبين الغابات. إنها مرتفعة. أنت تحبين المرتفعات…وشبابيكها زرقاء. وأنت تحبين الزرقة.

ماذا أقول أيضاً؟

جاءت الفتاة بصينية العشاء الذي لا أحد يعتبره عشاء فاخراً. فالخبز وصحن الجبنة وقطعة من عشاء الأمس، يعتبر بكل المقاييس احتفالاً بالحياة…ولكن ليس احتفالاً بالأخبار السارة والوعد بالشقة ذات الإطلالة على الغابة، والمرتفعة، والزرقاء الشبابيك… فلهذا وعد باحتفال آخر!

في اليوم التالي، وكان يوم نهاية العام (أي عام تريدون) كان العشاء أفضل قليلاً. أضيف إليه معلبات وزعها المتعهد على العمال. وللاحتفال، قليل من نبيذ أريحا، قدمها عامل فلسطيني، زميل بناء. وكانت حامضة قليلاً.

هذا الثنائي: الرجل وزوجته، متخصصان بالتبريرات لكل ما يحدث، بإيجاد الاعذار للأقدار. بالصبر على ابتلاع المكروه. بالسخرية من التعب. وهما كأنما يديران مشروعاً لصناعة الطوب الوحيد، الذي لولاه لا يمكن بناء أي نوع من أنواع المستقبل…

إنهما يشبهان فكرتنا عن الأمل.

أمس قال لها:

الجدار العزل سيهدم ذات يوم، كما انهدم جدار برلين. والمستوطنات ستعود لنا، بعد إفراغها، والعرب سيدفعون كلفة البناء، وتعويض “الاغتراب الوطني” اليهودي الذي تعود على النعناع الفلسطيني، والاصطياف في الضفة الغربية.

ما زلت اعتقد أن المستوطنات هي استثمار يهودي في… المعلوم.

لم يكن بوسعها الذهاب معه في هذا الشطط السياسي. ولكن، وحسب العادة، هي تمارس الشطط أيضاً أكثر منه. فهناك اتفاق نهائي على التفاؤل. وهم لا يقولون كما في الأناشيد:

“غداة غد لنا النصر” بل يؤمنون بسيرة الخبز الحميدة: “مادام ثمة رغيف…ثمة معجزة في مكان ما على الطريق”.

لم يكن بوسعه ايضاً التفاخر بما يفعله يومياً. وسط الاحتجاج العنيف على الفكرة السوداء. على الممرالاجباري الحقير الذي على الفلسطيني أن يمر فيه كلما أراد الانتقال إلى أي مكان. الممر الذي تعود فيه الإسرائيلي على جرعة التنكيل اللذيذة بذوي الحاجات السريعة.

لكن كان واثقاً من أنها تفهم “خيانة الرغيف”. في أول يوم في العام الجديد (أي عام تريدون؟)

سقط عامل فلسطيني في مستوطنة إسرائيلية في الخليل. من الطابق الخامس وهو يرتب اللون الأزرق ويكمل دهان الشبابيك الزرقاء.

زوجته واثقة أنه لم ينتحر، كما يزعمون، لأنه، كان يرسخ بقاءه في البلد بالحيازة الآمنة لمكان النوم والحياة والأولاد.

هي اكتفت بالقول: على الأغلب كان يبالغ في الاعتناء بشقتنا.

وعلى الأرجح أن هذه المبالغة، كما المبالغة بالبقاء في فلسطين، هي المخالفة التي تجعله قابلاً للموت المشبوه.

سقط العامل عن النافذة… ويداه ملطختان بالأزرق.

آخر جملة قالتها امرأته:

“أصعب شيء… العمل عندعدو”.

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى