«السادات» لروبير سوليه: سيرة تشبه حكايات السينما!

«حياة السادات هي أشبه برواية. فالمراهق المتحدّر من عائلة فلاّحين، والذي يحلم بأن يصبح ممثّلاً، انتهى به المطاف إلى أكبر مسارح العالم».

هكذا يقدّم الكاتب الفرنسي، مصري الأصل، روبير سوليه الرئيس المصري الراحل أنور السادات، ليفاجئ القارئ بتحليل معمّق لهذه الشخصية الاستثنائية، المثيرة للسخرية أحياناً، والمثيرة للإعجاب أحياناً أخرى، والمسلية دوماً، تماماً مثل صفحات الكتاب، الذي نقله الى العربية أدونيس سالم، وصدر مؤخراً عن دار «هاشيت أنطوان» تحت دمغة «نوفل».

السادات، «الذي كان كسولاً في المدرسة»، كان يطمح منذ التحاقه بالكلية الحربية في العام 1936 إلى لعب دور البطولة على المستوى الوطنيّ بطرق عشوائية، وهو ما يبرزه سوليه بشكل واضح في سياق كتابه.

احترف السادات فنّ كتابة الروايات المزدوجة المتناقضة حول المحطات الرئيسية في تاريخ مصر. ففي عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وصف السادات نفسه في مذكراته بأنه الضابط الموالي «للملهم، والمحرّك، والقائد، والينبوع الفيّاض الذي ترتوي منه شجاعاتنا الفتيّة والمتحمّسة». أما بعد وفاة عبدالناصر، فقد حوّر السادات الروايات. فنسب لنفسه دور البطولة في جميع المحطات المفصلية في مصر.

ويعرض سوليه، في كتابه، لتفاصيل زواج السادات الأول التقليدي، ثم تعرّفه إلى حبّ حياته جيهان، التي كانت معجبة به، وكتبت فيه مقالات عدة جعلت منه «بطل أحلامها».

وعلى عكس زوجته الأولى، تجمع السادات بجيهان «البرجوازية الشابة والجميلة والذكية والمتّقدة حياة وشغفاً» قواسم مشتركة عدة ستتكشّف تباعاً مع تقدم فصول الكتاب، منها مثلاً معارضتها لنظام الملك فاروق، والاحتلال البريطاني، وإعجابها اللافت بتنظيم «الإخوان المسلمين» الذي تأثّر السادات بمؤسسه حسن البنّا.

وفي استكمال لكشف مكنونات شخصية السادات المتناقضة والمثيرة، يعرض سوليه لما كتبه محمد حسنين هيكل في معرض تهكّمه على السادات بالقول: «الحقيقة أن جيهان لم تعجب أنور السادات، لأنها فتاة جميلة فقط وإنما كان أشدّ ما أعجبه فيها أنها ناصعة البياض. من سوء الحظّ، – وبدون داع حقيقيّ، أن اللّون كان لا يزال عقدة تتملّكه». كما يروي فصولاً من حياة السادات بعد خروجه من السجن وزواجه بجيهان وصولاً إلى عودته إلى صفوف الضباط وانخراطه في السياسة من جديد مع الضباط الأحرار.

في ثورة العام 1952، يقدّم السادات، الذي يبرع في «النأي عن النفس» ساعة الامتحان ثلاث روايات مختلفة ومتناقضة حول دوره في هذا الحدث الذي غيّر في تاريخ جمهورية مصر العربية. وبحسب سوليه، تشير هذه الروايات كما في كلّ مرة، إلى أن السادات «يعطي فيها الانطباع بأنه هيّأ نفسه في آن واحد لاحتمالَيْ النجاح والفشل. وقد لاحظ مراقب بارع بأن «أنور السادات، إذا ما شارك في مؤامرة، فهو ينأى بنفسه دائماً ساعة الامتحان، وكأنه يرغب في مداراة السلطة والمعارضة معاً، خشية الالتزام الكامل بسلوك درب قد تقوده إلى الهلاك».

نجحت الثورة، وطلب من السادات إعلان خبر الانقلاب في اليوم التالي. في هذا الخبر أيضاً، يبرز تناقض السادات حين ذكر في مذكراته الأولى أن عبد الحكيم عامر هو من ألّف البيان الذي وجّه إلى الشعب المصري، بينما عاد في مذكراته الثانية ليزعم بأنه هو مَن كتب بيان الثورة. فبعد خمسة وعشرين عاماً من حدوث الثورة، وبعد وفاة عبد الناصر واستتباب الحكم للسادات، أعاد الأخير كتابة كل الأحداث التي جرت في حقبة ناصر، «مبالغاً في الدور المتواضع الذي لعبه» في مرحلة الثورة والمرحلة التي تلتها. فهو يكتب في مذّكراته «بوقاحة فاضحة» بحسب سوليه: «كنت الوحيد بين أعضاء مجلس قيادة الثورة الذي كتبت عليه مواجهة جميع الأحداث، منذ إعلاني قيام الثورة إلى خروج الملك من مصر. وقد تسبّب هذا في خلق حساسيات كثيرة بيني وبين زملائي في مجلس قيادة الثورة، خاصة أنني كنت الاسم الوحيد المعروف بينهم لدى الجماهير، نتيجة لنضالي السياسيّ الطويل، وبعد أن خلقت منّي الصحف والمجلاّت بطلاً أسطوريّاً في قضية مقتل أمين عثمان».

«موهبة تفويت المواعيد المهمّة» أو «النأي بالنفس»، كما يسمّيها الكاتب، تحضر أيضاً في جنازة عبد الناصر! فالسادات غاب كما يفعل في كل الاستحقاقات والأحداث «بعدما أصيب بانهيار مفاجئ ونقل للمعالجة إلى مقرّ المجلس القديم لقيادة الثورة». بعد وفاة عبد الناصر، أصبح أنور السادات رئيساً لجمهورية مصر العربية، حائزاً على تأييد شعبيّ واسع من خلال الاستفتاء الذي جرى في العام 1970.

لم يعلم كلّ مَن سخر مِن وصول السادات إلى سدة الرئاسة من كتّاب وسياسيين ورؤساء أجانب، أنّ السادات سيقوم بتغيير جذريّ في السياسة الداخلية والخارجية لمرحلة تاريخيّة جديدة في مصر ما تزال تعيش ارتداداتها حتى يومنا هذا مصر والمنطقة.

انقلب السادات على كل سياسة وحقبة جمال عبد الناصر الاقتصادية والسياسية، منسلخاً بذلك تدريجياً عن ظلّ عبد الناصر الذي ظلّ يلاحقه في بدايات تولّيه الرئاسة. على الصعيد الاقتصادي، أعاد السادات لعدد من كبار رجال الأعمال أراضيهم، ونقل الاقتصاد إلى الليبرالية من خلال «سياسة الانفتاح» عبر تشجيع الاستثمارات المحليّة والأجنبية وأموال البترودولار وحماية الملاّكين ضد خطر التأميم وهجرة اليد العاملة المصرية بحثاً عن فرص عمل أفضل.

أما على الصعيد السياسي الداخلي، فبعد حملة الاعتقالات الواسعة التي قام بها ضد الموالين للسوفيات في الحكم، أدخل السادات التعددية الحزبية في العام 1976 إلى مصر، وأفرج عن المعتقلين الإسلاميين وصولاً إلى منحهم العفو العام. كما أدخل الدين في الدستور المصري حيث ظهر في المادة الثانية من الدستور أن «مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع»، فباتت المرجعية الإسلامية هي المسيطرة على المجال العام و «المقياس لأهليّة المؤسسات أو الأشخاص للاحترام». بحسب الكاتب، هذا التعديل الجوهريّ ليس مستغرباً، فالرئيس المصري الجديد لم يُخفِ إعجابه بمؤسس تنظيم الإخوان المسلمين حين كان ما يزال ضابطاً شاباً. هنا، يشير الكتاب إلى تأثير هزيمة العام 1967 التي أدخلت مفهوم «الأمّة الإسلامية» في العالم الإسلامي بدءاً من المملكة العربية السعودية، وصولاً إلى مصر التي وجد المصريون في الدين ملاذاً بعد الخسارة. بداية تسلل الدين إلى المجتمع المصري، ما لبث أن اكتسب قوة ودفعاً في عهد السادات.

لم يكتفِ السادات بمحاربة سوفيات الداخل المصري، بل قام بطرد الخبراء السوفيات من مصر وبدأ بفتح خطوط تواصل مع الأميركيين ذلك لاقتناعه بأن «جمال عبد الناصر ألحق الإفلاس بمصر لأنه عارض الغرب». بالإضافة إلى ذلك، لم يُخفِ السادات سحره بالقوّة الغربية «مثلما سحرته في الماضي قوة هتلر»، وهو كان على يقين بأن مصير العالم عموماً والشرق الأوسط خصوصاً يتقرّر في واشنطن». هذا الاعتقاد كان منطلق السياسة الخارجية لـ «بطل العبور»، كما سمّي، وكان المنطلق في نسجه لعلاقات مع المسؤولين الأميركيين مثل وزير الخارجية الأميركية والمعاون الأساسي للرئيس نيكسون في العام 1973، هنري كيسينجر.

لم يكن العام 1977 يشبه غيره من التواريخ. السادات قرّر زيارة القدس ولقاء المسؤولين الإسرائيليين. أحدثت هذه الزيارة صدمة وذهولاً في العالم العربي وحالة من الغضب ترجمتها الاعتداءات التي نفّذت ضد السفارة المصرية في بلدان عدّة، بالإضافة إلى رفض الحكّام العرب للزيارة. كما أحدثت أزمة سياسية في الداخل المصري دفعت بعض المسؤولين إلى تقديم استقالاتهم. وفي عرض لتفاصيل الزيارة، يتبيّن أن السادات لم يحدث «التغيير» أو «الإنجاز» المرجوّ في ما يتعلّق بفلسطين وتحديداً بشأن هوية مدينة القدس، ليعبّر لاحقاً عن خيبته من الزيارة، رغم شعوره بالفرح ومن أهميّة الخطوة التي قام بها، خصوصاً لجهة ما أحدثته من ضجّة في دول العالم حتى أنه قال لأحد أصدقائه: «فاق عدد متابعي وصولي إلى القدس عبر شاشات التلفزيون عدد مشاهدي نزول نيل أرمسترونغ على سطح القمر في تموز/يوليو 1969».

ويؤرّخ الكتاب لفصول معاهدة كامب دايفيد للسلام بين إسرائيل ومصر بدءاً من المفاوضات وصولاً إلى إبرامها في 26 آذار/مارس 1979، من دون إغفال التطرق إلى الجانب النفسي الذي رافق السادات المعتدّ بنفسه، بسبب الاهتمام العالمي الكبير الذي حظي به نتيجة لخطواته وسياساته! فأظهرت دراسة قامت بها وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية أن السادات «يعتبر نفسه مخططاً استراتيجياً كبيراً ومستعداً لتقديم تنازلات تكتيكية إذا اقتنع ببلوغ أهدافه العامة، وبأن لديه عقدة جائزة نوبل»، بحيث «تسمح له ثقته بنفسه بالقيام بمبادرات جريئة، متجاوزاً اعتراضات مستشاريه»!

«بطل العبور»، ما يلبث أن تحوّل بعد زيارة القدس وإبرام معاهدة السلام مع إسرائيل «بالخائن الذي يجب التخلّص منه» في دول عربية عدة وفي الداخل المصري وخاصة في صفوف الإسلاميين. وهكذا في عرض «6 أكتوبر» من العام 1981، اغتال الإسلاميون أنور السادات، وهكذا، «نال الممثّل الذي أراد السادات أن يكونه، نجم التلفزيونات الغربية، فرصة الظهور في مشهد أخير، مأساويّ، منقول على الهواء».

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى