السرد العجائبي في ‘حماقة ماركيز’

 

في تقديمه لرواية “حماقة ماركيز”، للروائي العراقي عواد علي، الصادرة عن منشورات ضفاف في بيروت، ومنشورات الاختلاف في الجزائر، يقول الناقد الدكتور صبري حافظ “تتجلى في هذه الرواية الأخيرة من ثلاثية “الحب والاحتلال”، وجوه أرابخا، من خلال تداخل العشق والأحلام والحروب. ويمثّل وجود بطل الرواية “سلمان البدر”، المتراوح بين الموت والحياة، منذ الحرب العراقية الإيرانية حتى الغزو الأميركي، مركزاً للسرد تنطلق منها لشخصيات في تأمل حاضرها وماضيها، والاحتلال الذي تنوء تحته“.

يجري الحدث الرئيسي في الرواية  في مدينة “أرابخا” (الاسم السومري لمدينة كركوك) خلال يوم واحد في شتاء عام 2009، لكن الشخصيات تسترجع أحداثاً تمتد إلى 23 عاماً، وتتوزع فضاءاتها على جبهات الحرب العراقية الإيرانية ومدن عراقية أخرى وتركيا واليونان والمكسيك وكولومبيا، في سياق سردي يجمع بين المنحى الواقعي والعجائبي (السحري).

بعد 23 عاماً على اختفاء جثة بطل الرواية الجندي “سلمان البدر”، في ظرف غامض، أثناء نقلها من جبهة الحرب إلى “أرابخا”، لدفنها هناك، يعود صاحبها إلى أهله في يوم شتائي، ويبدأ بالبحث عن حبيبته “نورهان”، التي تزوجت بعد استشهاده وأنجبت بنتاً أسمتها “صوفيا”، تيمّنا باسم شخصيّة من رواية “مئة عام من العزلة” لماركيز، لكنها ترملت بعد الاحتلال إثر مقتل زوجها. وحينما يحصل “سلمان البدر” على رقم هاتفها يتحدث معها، وهي منذهلة غير مصدقة، ويتفقان على اللقاء في مكان عزيز إلى نفسيهما، ويعدها بأنه سيكشف لها عن سر عودته حالما يلتقيان. لكن “سلمان البدر” وأخاه يصابان، وهما في طريقهما إليها، برصاص دورية أمريكية، ويفارق الأول الحياة في المستشفى، في حين يُجرح الثاني، ومنه تكتشف “نورهان” أن حبيبها لم يعد من الموت، كما توهمت، بل كان أسيراً في إيران طوال 23 عاماً، وقد أُفرج عنه قبل بضعة أيام فقط!

“- هل أخبرك عن الرواية التي كان يحلم بكتابتها هناك؟

– لم يسمحوا لي أن أمكث معه طويلاً.

– كان يود أن يسميها “عاشقان من أرابخا”، لكن سجانيه في الأسر حرموه من أدوات الكتابة.

فغرت فمي وكدتّ أسقط على وجهي من هول المفاجأة:

– في الأسر؟ هل كان سلمان أسيراً؟!

– من أين عاد إذاً؟

شعرتُ بأن الأرض تميد بي، أمسكت بطرفي الكرسي وثبتّ جسدي عليه بصعوبة، أما هاشم فقد واتته قوة غريبة وتمكّن من رفع جذعه ومدّ يده ليمسكني من ذراعي:

– نحن أيضاً صُدمنا أمس بعودته.

– يا إلهي! ومن يكون ذلك الذي يرقد في قبره؟

رمى ظهره على السرير وقال:

– لا أحد يدري. ربما يكون مراد هو الشخص الوحيد الذي يعرف.

– منذ ثلاثة وعشرين عاماً وسلمان أسير؟ لماذا لم يكتب إذاً أية رسالة؟ آلاف الأسرى كانوا يتبادلون الرسائل مع أهلهم.

– لم يكن مسجَّلاً في الصليب الأحمر.

– لماذا؟

– كان الإيرانيون غاضبين عليه فوضعوه في قفص ناءٍ قرب الحدود الأفغانية، ومنعوا لجان الصليب الأحمر من زيارته”.

 

تنتصر الرواية لعلاقة الحب السامية بين البشر ضد الكراهية من خلال التساؤل الذي طرحه ماركيز “ألا يستحق الحب أن نجنّد أعمارنا من أجله بدلاً من الكراهية؟”، وذلك عبر سرد بوليفوني (متعدد الأصوات)، على غرار رواية الكاتب الأولى “حليب المارينز” (2008)، تتناوب عليه شخصيات الرواية التي تنحدر من مكونات إثنية ودينية وشرائح متنوعة في المجتمع العراقي: (سلمان العربي، نورهان التركمانية، فرهاد الكردي، مراد التركماني، بولينا الكلدانية، فادي الآشوري).

وتأخذ الرواية عنوانها من اسم ماركيز، المهووس به بطل الرواية “سلمان البدر”، خريج اللغة الإسبانية، على نحو جنوني، فيحمل كتبه بلغتها الأصلية حتى في الخط الأمامي للجبهة، ويسميه أحياناً بلقبه الشعبي “غابو”، ويحلم بكتابة رواية على غرار رواياته. ولا يخفي عواد علي نفسه تأثره بواقعية ماركيز السحرية، وفي هذا الصدد يعترف، في حوار نُشر معه، “صعقني ماركيز مذ قرأت روايته “مائةعام من العزلة” أول مرة حين صدرت طبعتها الأولى، ثم أسرتني أجواؤه الساحرة في رواياته الأخرى، وعشقت الشخصيات المدهشة التي حفلت بها، وأفعالها ومفارقاتها الغريبة والهادئة جداً في الوقت ذاته وكأنها أفعال طبيعية للغاية، وأسلوب ماركيز في رسم تفاصيلها والغوص في أعماقها والتعبير عن أسرارها بإتقان شديد”.

يبرز علي في روايته سوريالية الواقع وغرابته، في ظلّ واقع تفوّق في سورياليته وعجائبيته على أيّ خيال أدبي، ويكون التحليق بالخيال في تناسب عكسيّ مع التعمّق في الواقع، ودواخل ضحاياه الذين تبقى جثثهم ملقيةً على قارعة الطريق، ومنفتحةً على الهواجس والمخاوف التي لاتنتهي، موازاةً مع الغوص في نشر هواجس الأمس والحاضر.

ويكشف في الحوارات التي تدور بين شخصيات الرواية عن الأساليب الحوارية المستوحاة من مفردات الحياة اليومية، حيث تسير بكل عفوية وانسيابية، بعيداً عن أي تكلف أو تصنع أو افتعال ظاهر ليشعر القارئ بواقعيتها وصدقها. وعلى الرغم من انسحاب الراوي، وتركه المجال للشخصيات لتتحاور فيما بينها، فإنه يبقى مسيطراً ومهيمناً على إدارة الحوار، ويتدخل من خلال التعليقات، وإبراز ملامح الشخصيات وهواجسها وانفعالاتها. وقد شخص ذلك بعض النقاد في أكثر من قراءة نقدية حظيت بها الرواية.

ميدل إيست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى