السعادة واقع تحدده المقاييس
السعادة واحدة من أكثر المفاهيم التي يساء فهمها على الدوام، وغالبا ما تؤخذ على المحمل الفردي والنزوع الذاتي ذي الملامح النفسية والروحية والأهواء الشخصية، في حين أن هذا المصطلح لا يمثل في حقيقته إلا معطى من المعطيات التي تتضمنها ملفات عديدة على طاولة الخبراء الاستراتيجيين، والذين يحيلونها بدورهم إلى السياسيين والاقتصاديين وأصحاب القرار.
لو كانت السعادة هي تلك التي في أذهان وقواميس رجال الدين والصوفيين والزاهدين والمتنسكين، وحتى الفقراء والمخدوعين، لاستغنت الهيئات الدولية عن هذا الكم الهائل من الخبراء والمتخصصين، واكتفت بالانطباعات الشخصية المضللة ـ بطبيعتها ـ يمينا أو يسارا، سلبا أو إيحابا.
كلمة ” سعادة” ـ كما نقيضتها ” تعاسة” ـ هي في بعدها النفسي لا تمثل أي مؤشر حقيقي يمكن أن تبنى عيه خطط وترسم على ضوئه سياسات، فالسعيد في ثقافة وبيئة معينة، يمكن أن يكون بائسا وتعيسا في مناخات وقناعات مختلفة، لكن المنطق هنا أن نستند على العلم الذي لا يعترف بالمحاباة ولا بالأمزجة الشخصية والأهواء الميتافيزيقية.
لذلك، وبناء على ما تقدم من توضيحات وتنويهات كان لا بد منها، وجب النظر إلى مؤشر السعادة وفق المفهوم الاصطلاحي الدقيق الذي أشار إليه تقرير السعادة العالمي الأول في 1 أبريل 2012 كنص أساسي للاجتماع، ولفت انتباها دولياً باعتباره أول مسح عالمي للسعادة في العالم، حيثُ حدد التقرير حالة السعادة العالمية وأسباب السعادة والبؤس والآثار المترتبة على السياسات التي أظهرتها دراسة الحالة.
وحين أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2011 قراراً يدعو الدول الأعضاء إلى قياس مقدار السعادة في شعوبها، كانت تهدف من وراء ذلك إلى المساعدة في توجيه سياساتها العامة، وبناء على ذلك، عقد اجتماع للأمم المتحدة تحت عنوان “السعادة والرفاه: تحديد نموذج اقتصادي جديد”.
ويصنف تقرير السعادة العالمي البلدان على أساس عوامل كثيرة ومتنوعة، بينها متوسط العمر الذي يعيشه الفرد والرعاية الاجتماعية ومستوى الفساد والخدمات الصحية والتكافل والسلم الاجتماعيين وقياس نسبة العنف والجريمة.
يستند مؤشر الرفاه والسعادة تقارير كبار الخبراء في العديد من المجالات كالاقتصاد وعلم النفس، ويتم قياس الرفاه على نحو علمي وفعال يأخذ بعين الاعتبار المسائل المتعلقة بالسعادة، بما في ذلك الأمراض العقلية، والفوائد الموضوعية للسعادة وأهمية الأخلاق، والآثار المترتبة على سياسات الدول في هذا المجال.
ترى هيلكه بروكمان، المتخصصة في أبحاث السعادة بجامعة ياكوب بمدينة بريمن الألمانية، أن السعادة هي “رد فعل إيجابي شخصي على انطباعات خارجية وداخلية يتسبب فيها سلوك محدد ويمكن قياس رد الفعل هذا”. والشعور بالسعادة يمكن أن يستمر ثوانٍ قليلة كما يمكن أن يستمر لسنوات أيضا”.
وبحسب معهد غالوب الأميركي لاستطلاعات الرأي فإن من بين العناصر التي يتسبب فيها الشعور بالسعادة على الإطلاق، “أن تكون حياة الإنسان ذات مغزى، وأن يكون فيها حوافز. وكذلك نوعية العلاقات الاجتماعية ونوعية الحياة في المجتمع والأمان المالي والسلامة الجسدية”.
ولكن عندما “تتحقق الضرورات المادية الأساسية للإنسان فإن زيادة الممتلكات المادية لا تعني بالضرورة زيادة الرضا، لأننا نرفع سقف تطلعاتنا بشكل إضافي عندما نحوز هذه الضرورات”، حسبما أوضح كارل-هاينز روكريغل، أخصائي أبحاث السعادة بجامعة نورنبرغ التقنية بجنوب ألمانيا.
ما ينبغي استيعابه لدى من يظن أن السعادة مسألة فردية بحتة، منفصلة عن محيطها السوسيولوجي والاقتصادي والسياسي، هو أن مفهوم السعادة وفق المقاييس الأممية المستندة على أسس علمية، لا يعني الرضا على الذات والاكتفاء بالواقع والموجود مما يعنينا عن الحاجة إلى الآخرين.
إن الحاجة إلى قياس مستوى السعادة صارت تشبه وتعادل ضرورة معرفة قياس ضغط الدم ومستوى السكر في الجسم الإنساني، ذلك أن الأمر ليس مجرد خيار شخصي وقناعة فردية تتعلق بالحريات بل واجب وحق في نفس الوقت أن يتعرف المواطن والدولة على مؤشر مستوى السعادة في المجتمع لأسباب علاجية ووقائية واضحة ولا لبس فيها.
من ينشد سعادة من صنع أوهامه وخياله يشبه ذلك المريض الذي لا يعترف بعلته ولا يحترم تشخيص الطبيب ولا يعبأ بالنصيحة ولا يتناول وصفة الدواء.. أما كان الأجدر بهذا المريض أن يعيش خارج المجتمع والدولة طالما أنه يصنف السعادة وفق أهوائه ويشكك في الآليات العلمية والدراسات الميدانية التي ترصد الحالة.