السعودية وإيران: صراع نفوذ بالأدوات المتاحة

في البدء كانت الجغرافيا، قبل الايديولوجيا والدولة والثروة النفطية، بين بلاد فارس وجيرانها العرب والأتراك والروس وسواهم. بعد إيران الصفوية، استقرت العلاقة بين إيران والسلطنة العثمانية ووريثتها الدولة التركية في زمن الدولة القاجارية ولاحقا البهلوية. في الحقبة المعاصرة، علاقات مأزومة سادت بين إيران والعراق، والمواجهة الأبرز انتهت بتسوية على حساب الأكراد في اتفاق الجزائر عام 1975. وفي المجال الاقتصادي، مصالح مشتركة جمعت إيران والدول العربية المصدرة للنفط في إطار منظمة أوبك.

اهتزت موازين القوى في الخليج بعد سقوط الشاه، حليف واشنطن في الدولة المتاخمة للاتحاد السوفياتي، فكان إنشاء مجلس التعاون الخليجي في 1981 بدعم أميركي تعويضاً لخسارة الحليف ودعماً لأمن دول الخليج بمواجهة إيران الإسلامية. جاءت حرب صدام حسين بعد عام على إطاحة الشاه لتوحّد إيران الفارسية والإسلامية. الحرب العراقية – الإيرانية دامت ثماني سنوات مكلفة على الأطراف جميعها، ومنها دول الخليج التي دعمت العراق في حربه مع إيران. لكن بعد انتهاء الحرب في 1988 بتسوية دولية استعادت توازنات ما قبل الحرب، انطلق صدام حسين بالتوسع باتجاه جيرانه، عرب الخليج هذه المرة، فاجتاح الكويت وألغى النظام وضمّ الدولة محافظة إدارية الى العراق، وبات الجيش العراقي على حدود الكويت مع السعودية. ذهب صدام حسين بعيداً في اعتدائه، فشكل تهديداً مباشراً لدول الخليج، السعودية تحديداً، وللمصالح الأميركية والاقتصاد العالمي.

حرب «تحرير الكويت» وتداعياتها قلبت الأوضاع رأساً على عقب. الأكثر تضرراً كان العراق، والأكثر انكشافاً أمن الخليج الذي أصبح تحت الحماية الأميركية المباشرة، فكان الوجود العسكري الأميركي في السعودية دافعاً لأسامة بن لادن لإعلان الجهاد المسلح في السعودية، بعد أفغانستان. وسرعان ما انتشرت القواعد العسكرية الأميركية في الكويت وقطر والبحرين. حرب تحرير الكويت أعطت واشنطن الزخم السياسي لإطلاق مفاوضات مباشرة بين العرب وإسرائيل في 1991، أنتجت «اتفاق اوسلو» ومعاهدة سلام بين الأردن وإسرائيل. الغزو الأميركي للعراق في 2003 أعاد خلط الأوراق من جديد بعدما شكل الجيش الأميركي في العراق حيّزاً فاصلاً بين السعودية وإيران. انسحبت أميركا من العراق وباتت ايران صاحبة النفوذ الأكبر في البلاد. بإيجاز، مغامرات صدام حسين قلبت المعادلات القائمة داخل العراق وفي محيطه وأوجدت وقائع جديدة تزامنت مع التبدّل الجذري في موازين القوى الدولية بعد انتهاء الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفياتي.

لم يكن لإيران أي دور حاسم في مسار هذه التطورات. إلا أن طهران لم تترك فرصة إلا ووظفتها لتوسّع دائرة نفوذها الإقليمي واستفادت من أخطاء الغير، لا سيما عراق صدام حسين وجورج دبليو بوش. لم تخف إيران سياستها «بتصدير الثورة» منذ اليوم الاول ولا هويتها الإسلامية. سلكت ايران سلوك الدولة الكبرى في مجالها الإقليمي، مثلما فعلت تركيا في السنوات الأخيرة، وقبلها مصر والسعودية وقطر والعراق وسوريا، ومثلما تفعل الدول الطامحة لدور ونفوذ، دينية كانت أم علمانية، بأدوات القوة الناعمة أو الخشنة. أقامت طهران علاقات وثيقة مع دمشق ودخلت الساحة اللبنانية في زمن الحرب، لا سيما بعد الاجتياح الاسرائيلي في 1982، وأصبح «حزب الله»، المدعوم من إيران، تنظيماً أساسياً وفاعلاً في لبنان ورأس حربة في تحرير الجنوب من الاحتلال الإسرائيلي، خصوصا في التسعينيات، ودعمت أيضا التنظيمات الإسلامية في فلسطين. ولفترة طويلة كانت سوريا الحليف المشترك لإيران والسعودية، وشاركت دمشق في حرب تحرير الكويت بدعم عربي وأميركي.

في العقود الماضية توسع النفوذ الإيراني، قبل أن تمتلك ايران قدرات نووية وتتصالح مع الدول الكبرى. وجاء «الربيع العربي» ليقوّض الاستقرار القائم على توازنات أسقطتها النزاعات المسلحة، وأسقطت معها العلاقة المميزة بين واشنطن والرياض. فلا احتكار سعودياً أو عربياً للعلاقة مع واشنطن، أقله في عهد الرئيس أوباما، ولا علاقة مودة خاصة مع طهران، بل علاقة عمل براغماتية بامتياز. فإذا كان الاعتداء على مقرّي البعثة الديبلوماسية السعودية في إيران مرفوضاً ومداناً ويمكن اتخاذ الإجراءات الكفيلة بعدم تكراره، فإن تمدد النفوذ الإيراني في المنطقة لن توقفه بيانات الإدانة والاستنكار، ولا أي إجماع مفترض، عربي أو إسلامي، ولا طبعاً أي عمل عسكري. حكومة جزر القمر قطعت علاقاتها الديبلوماسية مع طهران تضامناً مع الرياض، بينما ايران تستعد لوصل ما انقطع مع الدول الكبرى.

التحولات الجيوسياسية في السنوات الأخيرة في المنطقة، لا سيما في المجال الإقليمي المباشر للسعودية، أنتجت موازين قوى جديدة. سياسة «الاحتواء المزدوج» التي اعتمدتها واشنطن انتهت مفاعيلها، فجاء الاحتلال الأميركي للعراق لينتج توازناً قسرياً في العلاقات المأزومة بين الجيران الثلاثة، ايران، العراق والسعودية، الى أن خرج العراق من المعادلة الثلاثية وبقيت السعودية وايران وجهاً لوجه. أما التحالف المستجد بين الرياض وأنقرة فلن يعيد التوازن المفقود، مع حليف محاصر من روسيا وإيران ومصر. فإذا كانت الجمعيات الخيرية تتنافس في عملها الإنساني، فالدول والشعوب أحرى بذلك. إنه الصراع التقليدي بين دول تتنافس بأدوات السلطة والنفوذ المتاحة باسم الدين والدنيا في زمن التحولات الكبرى.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى