السعوديّة تقرّر مصير السلالة الحريريّة
لم يكن رفيق الحريري يعدُّ لسلالة حاكمة. لم يكن ليجرؤ على منافسة أولياء أمره في الرياض في «بزنس» السلالات الحاكمة. والسلالة في لبنان ـــــ في عرف النظام السعودي ـــــ تعني أن هناك من يريد تطويب أفراد في عائلة للحكم من دون مشورة أو قرار من الرياض. مفهوم السلالة الحاكمة في لبنان يُقلّل من حجم النفوذ والسيطرة السعوديّيْن. كانت السعوديّة، مثلاً، تدعم صائب سلام لكنها كانت تدعم أيضاً سامي الصلح والحاج حسين العويني. التعدديّة في الزعامات في الطائفة أفضل للهيمنة الخارجيّة. سمح النظام السعودي للنظام السوري بالتدخّل والهيمنة في لبنان لكن شرط ضمان المصالح الأمنيّة والسياسيّة السعوديّة. انهارَ مشروع رفيق الحريري عندما تضارب المشروع السعودي مع المشروع السوري، ولأسباب ليست واضحة بعد (لا يزال جوشوا لاندس، الخبير الأميركيّ في شؤون سوريا في جامعة أوكلاهوما، يؤمن أن تغييب الحريري كان بسبب إعداده لمشروع انقلاب في سوريا، عماده الفاسدون المرتبطون برشاوى رفيق الحريري، أي حكمت الشهابي وعبد الحليم خدام وغازي كنعان. كان لاندس يقصّ علينا قصة الانقلاب بتشويق فظيع. هذا السيناريو لم يحظَ باعتبار في محكمة الحريري الإسرائيليّة). رفيق الحريري اعتمدَ في الحكم على اتفاق سعودي – سوري، واستعان بالذراع الغليظة للنظام السوري للسيطرة على ما لم يستطع أن يسيطر عليه بالرشوة. مسيرة الحريري كانت مسيرة رشوة وفساد على نطاق واسع، وبصورة لم يسبق لها مثيل في تاريخ لبنان المعاصر.
سعد الحريري لم يعتزل بإرادته، وهو علَّقَ عمله السياسي حتى إشعار آخر. يعلم سعد حجم مشكلته: هو خارج الحكم طالما بقيَ محمد بن سلمان في الحكم. عزله محمد بن سلمان لسببيْن:
1- لأنه شارك في الحكم مع حزب الله ولم ينجح في حرب 7 أيّار ضد الحزب (ننسى أن 7 أيّار كانت حرباً سعوديّة ضد الحزب في لبنان وعبر ميليشيات طائفيّة متطرّفة. قال سعود الفيصل لمسؤول عربي: لقد أطعمناهم الوجبات الساخنة واستسلموا في الساعات الأولى من المواجهة ـــــ سمعتُ الكلام من المسؤول العربي نفسه). كان متوجّباً على الحريري أن يشهر الحرب ضد الحزب وأن ينزع نصف صواريخ الحزب، على أقلّ تقدير. كما أن الورقة الكويتيّة الأخيرة تتضمّن قائمة مطالب آل سعود (نلاحظ أن السعوديّة والإمارات أعدّتا سلسلة طويلة من المطالب للنظام القطري وأقسمتا أغلظ الأَيمان أنهما لن تتصالحا مع قطر من دون تنفيذ الشروط. طبعاً، رضخ النظامان السعودي والإماراتي لمطالب واشنطن وتصالحا مع قطر من دون تنفيذ أي شرط من شروط النظاميْن ضد قطر).
2- محمد بن سلمان لم يسامح لسعد الحريري تحدّثه سرّاً (مباشرةً أو عبر وكلاء ومساعدين له) مع مراسلين غربيين واعترافه باحتجازه وضربه من قبل جلاوزة آل سعود، مع أن الرجل حرص على نفي ذلك في العلن أو تمنّع عن التحدّث عن ذلك في العلن. إن على سعد نفي احتجازه بالقاطع والاستمرار في مسرحيّة الاستقالة وأنها كانت بسبب تهديد على حياته من قبل حزب الله (من يذكر كيف أن صفّاً من إعلاميّي السجود في دبي – بيروت ظهروا على الشاشات وأطنبوا في الحديث عن «خشخشة» على جهاز اتصال الحريري قبل احتجازه؟) الحريري لم يعترف علناً باحتجازه ولم يتحدّث عن الأسر مع الصحافة إلا «أوف ذا ريكورد»، أي من دون السماح بالنشر.
بعد تدبير ماكرون لإطلاق سراح الحريري، استدعى محمد بن سلمان سعد الحريري مرة ثانية إلى الرياض وأجلسه قربه في مسرحيّة لنفي قصة احتجازه وجلس سعد طائعاً وضحك عندما سخر محمد بن سلمان من قصة أسر الحريري في الرياض. لا، أخذ سعد الحريري «سلفي» مع الذي أمر باحتجازه وضربه. سعد الحريري أعطى صكّ براءة لمحمد بن سلمان لكن هذا لم يكن كافياً. اللوبي السعودي في واشنطن لاحظَ أن عدداً من الكتب صدرت عن محمد بن سلمان وفيها شرح وافٍ عن احتجاز وضرب وإهانة الحريري، والتفاصيل لم تكن ممكنة من دون تعاون (خلف الستار) من فريق الحريري. اعترف الحريري للمراسلين الغربيّين أنه أرسل إشارات سرّية إلى فريقه عندما لم يرتدِ ساعته الـ«آي. واتش».
طبعاً، بولا يعقوبيان قامت بما تقوم به دائماً: التقلّب في المواقف على طريقة وليد جنبلاط وأخذ الموقف وعكسه. هي تلقّت استدعاء من قبل المسؤول السعودي عن تنفيذ انقلاب في لبنان ثامر السبهان للمشاركة في مسرحيّة سعوديّة للتغطية على احتجاز الحريري. كان ذلك في وقت كانت الدولة اللبنانية وجمهور «المستقبل» يعبّرون عن حنق شديد لاختفاء الحريري. يعقوبيان طارت إلى الرياض على طائرة سعوديّة رسميّة وزعمت بعد عودتها أن الحريري كان حرّاً في «مملكة الخير» ـــــ هذا وصف الثائرة بولا للنظام السعودي في محطة «إل. بي. سي» بعد أن كانت شاهدة على اعتقال الحريري ـــــ وأنه كان في منزله. لكن بعد فضح عمليّة خطف واحتجاز الحريري لم يعد بإمكان يعقوبيان أن تتستّر. الإعلاميّة التي روّجت لفؤاد السنيورة وميشال سليمان تحوّلت إلى ثائرة، والإعلاميّة التي جزمت أنها أجرت المقابلة «ببيته، والله ببيته»، عادت وأخبرت بن هابرد، مراسل «نيويورك تايمز» في بيروت، أنها فوجئت بأن الحريري لم يكن في منزله أثناء المقابلة. وعليكَ أنتَ المُتلقّي أن تلاحظ كل ذلك وأن توفّق بين أقوالها المتناقضة وأن تقول إنها ثائرة بالفعل.
لم يكن سعد مؤهلاً أو معدّاً بصورة جيّدة لخلافة أبيه. لم يكن الأب يأخذ أولاده على محمل الجدّ في السياسة (أو في الـ«بزنس»). بهاء وسعد أظهرا ميلاً مبكراً لألعاب الفيديو والسيّارات والدرّاجات الناريّة، كما أن أيمن الحريري بات خبيراً عالميّاً مُعتمداً في (واقتناء) مجلات الـ«كوميكس» الأميركيّة. دفع ملايين لاقتناء أوّل عدد من مجلّة «سوبرمان» (فتِّش عن اسم أيمن الحريري على «غوغل» تجد أخباراً عن التقاط صور له مع مشاهير ـــــ بمن فيهم المجنّدة الإسرائيليّة التي لعبت دور «المرأة العجائبيّة» وهو يحمل العدد الأوّل من مجلّة «سوبرمان»). لكنّ العائلة السعوديّة المالكة توكّلت إدارة عائلة الحريري والخلافة فيها بعد وفاة رفيق. كبير العائلة في حينه، عبدالله بن عبد العزيز، أوكل إلى أخيه، سلمان، إدارة مسألة الخلافة. سلمان هو الذي ولّى سعد على أخيه، بهاء، لأن أمراء آل سعود اعتبروا أن بهاء فظّ الطباع خلافاً لأخيه، لأنه أحياناً كان يرحل إذا ما تأخّر أمير سعودي ساعات طويلة عن لقائه في موعد. البروتوكول اللبناني يقول بانتظار الأمير لساعات وأيام، وليس على اللبناني إلا الانصياع والانتظار. لم يغفر بهاء الابن البكر هذه الإهانة لشخصه الكريم عندما تجاوزه أمر الخلافة من الرياض. حقدَ على أخيه، وقاطعه بمجرّد أن تولّى شأن القيادة السياسيّة للعائلة. حضّر بهاء لخلافة الخليف مذّاك. الفرصة سنحت له الآن، لكن له مشاكل خاصّة به، بالنسبة إلى عائلة الملك سلمان. كيف يمكن لمحمد بن سلمان أن يقبل بقيادة الرجل الذي رفضه أبوه من قبله في عام 2005؟
لكن لا بهاء ولا سعد أهلٌ للسياسة. مستشار رفيق الحريري الذي كان موكلاً بتدريس اللغة العربيّة لسعد أخبرني كيف أنه شاهد سعد وبهاء يتذمّران من مشاهد الانتفاضة الفلسطينيّة الثانية لأن على الشعب الفلسطيني الاستسلام بحسب رأيهما. العلم والمعرفة لم يكونا في بال الشقيقيْن. طبعاً، يستطيع الثري العربي أن يُدخل ابنه أو ابنته إلى أي جامعة خاصّة في الغرب مقابل تمويل سخي. دفع رفيق ملايين الدولارات لجامعة «جورجتاون» كي يُقبل سعد في برنامج دراسات عليا في الـ«بزنس» ـــــ والدراسة نفعته في إدارة ما ورثه من أبيه. أخبرني العزيز حليم بركات (عالجته الطبيعة ممّا ألمّ به في سنوات شيخوخته) كيف أن سعد كان يجلس في الصفّ وهو يتأمّل درّاجته الناريّة من النافذة. كان مأخوذاً بدرّاجته الناريّة. انتحى به بركات وقال له ذات يوم: أنت في صف دراسات عليا وعليكَ أن تتحدّث وأن تشارك. كان سعد خجولاً وبالكاد أجابَ أستاذه. السياسة لم تستهوه وقد وجد أبوه له مهنة تليق به: أن يكون مساعد الأمير «عزّوز» لشؤون اللهو والترفيه. والأخير هو عبد العزيز بن فهد الراعي الأول لآل الحريري في السعودية. وسعد ـــــ حسبما يقول العارفون ـــــ قام بالمهمّة خير قيام. وهل هناك ما يؤهّل شخص للحكم في لبنان أكثر من المهارة في الترفيه عن شيخ أو أمير نفطي؟
ضاق سعد بمنصب الزعامة مبكراً. ضاق ذرعاً بدروس اللغة العربيّة التي فُرضت عليه وضاق ذرعاً بدروس التاريخ عندما حاول مستشار له تفسير أهميّة عبد الناصر في تاريخ سُنة لبنان. ألا يستطيع المستشارون القيام بكل المهمات كي يتفرّغ هو للـ«بزنس» والجلوس أمام طاولة الشطرنج كي يظهر رصيناً مجتهداً عندما يلتقي بالزوار؟ الحريري غرف من مال الناس بجشع. لم يكن مثل أبيه الذي ضاعف ثروته أضعافاً مضاعفة وهو في السلطة (ورفض حثّ جهاد الخازن ونسيب لحّود له من أجل أن يضع ثروته في «صندوق أمانة» كي لا يتأثر في الحكم بمصالح تراكم الثروة. رفض الحريري المناشدة وراكمَ الثروة وسرق ممتلكات الناس). فساد سعد الحريري لم يعد سرّاً. حتى ديفيد شينكر في مرثيّته اللئيمة عنه في موقع مؤسّسة واشنطن («الذراع الفكريّة للوبي الإسرائيلي والتي تستضيف لبنانيّين من كل الأشكال وكان وليد جنبلاط خطيباً في مؤتمرها السنوي زمن عقيدة بوش للحديث عن أهمّية تحرير فلسطين والجولان والأندلس) شينكر تحدّث عن فساد سعد وكان أوّل مسؤول أميركي (سابق) يعترف بما لم يرد بعد في أي وسيلة إعلام عربيّة (خلا هذه الجريدة): سعد الحريري تعرّض للتعذيب في الرياض على يد محمد بن سلمان. ليس هناك دكانة حقوق إنسان لبنانيّة واحدة اعترضت على التعذيب الذي تعرّض له سعد الحريري من قبل محمد بن سلمان.
محنة سعد الحريري في الرياض لا تبرّئه من الفساد ولا من إشعال الفتنة. الخلاف بينه وبين محمد بن سلمان ليس صراعاً بين الخير والشرّ بل هو صراع بين الشرّ والأشرّ. الحريري لعب الدور الموكول إليه في إشعال الفتنة ونشط كما أبيه في التحريض المذهبي الذي هو عماد هذه الزعامة الوافدة. لكنّ سعداً لمس التناقض بين متطلّبات الزعامة وبين ضغوطات آل سعود عليه. أرادوه أن ينزع سلاح حزب الله بميليشيا من تيّار المستقبل. ما عجزت عنه إسرائيل سيحقّقه لها ناشطو المستقبل؟
أنهى محمد بن سلمان الحقبة السياسيّة لسعد الحريري. فرصة الحريري الأخيرة هي في عزل محمد بن سلمان عن الحكم. القرار سيكون بيد الإدارة الأميركيّة: لو كانت جمهوريّة سترضى عنه ولو كانت ديموقراطيّة ستتقبل لكن مقابل ثمن كبير، كأن يزور القدس مشياً على الأقدام أو أن ينقل الكعبة إلى تل أبيب أو أن يقبل بنشر قوّات إسرائيليّة في مكّة والمدينة أو أن يقبل بإعلان نتنياهو مفتياً عاماً للديار الإسلاميّة، أو أن يُعلن دخول إسرائيل رسميّاً جامعة الدول العربيّة والإسرائيليّة. سيكون الثمن باهظاً لكن العرش أثمن عند محمد بن سلمان. أمّا لو تعرقلت مساعي محمد بن سلمان لأي سبب كان، فإن ذلك سينعش أحلام سعد الحريري بالعودة إلى الحياة السياسيّة في لبنان. وثنائي أمل – حزب الله مستعد دوماً لاحتضان الحريري (كما أعلن الأمين العام لحزب الله قبل أيّام) والثنائي سيواجه المؤامرة العالميّة بفريق قوي مثل نجيب ميقاتي ووزير الماليّة يوسف الخليل وسعد الحريري ووليد جنبلاط لو تطلّب الأمر (يبدو أن الثنائي سيترك، مرّة أخرى، مقعداً لجنبلاط في بيروت الثانية، وقد يعرقل، مرّة أخرى، وصول معارض لجنبلاط إلى المجلس النيابي إذا كان ذلك على حساب عدد نوّاب جنبلاط حليف الحليف الأقوى).
لكنّ الحريري بات محرجاً جداً. الرجل يخسر ثروته باستمرار لكن ذلك ليس نتيجة مؤامرة بقدر ما هو نتيجة غياب للمواهب والقدرات. من يخسر ثروة مليارات، من؟ من يرث من دون تعب مئات الملايين ثم يخسرها في سنوات قليلة؟ والقول إنه خسرها في السياسة هو كذب لأن الحريري كسب في السياسة (استفاد من فساد النفايات كما اعترف شينكر) أكثر مما خسر، وهو لم يضع مثل والده عدداً هائلاً من الناس على دفتر القبض. وكأن المتاعب المالية للرجل لا تكفيه، هو يعاني أيضاً من صراع الإخوة الأعداء. فجأة، اكتشف بهاء الحريري حبَّ وطن لم يقطنه ولم يسمع عنه إلا في نشرات الأخبار. بهاء الحريري يريد أن يستفيد من ثغرة الخلاف بين النظام السعودي وبين سعد الحريري. هو ليس خلافاً بقدر ما هو تخلٍّ قاطع من النظام السعودي عن ابن رفيق الحريري. لكن من المشكوك فيه أن يقبل النظام السعودي ببهاء خليفةً ثانياً لرفيق بعد أن كان الملك سلمان نفسه قد رفضه زعيماً للعائلة. وقدرة بهاء على جذب الناخبين تصطدم بعقبة أساسيّة أن استطلاعات الرأي لا تزال تثبت أن سعد لا يزال في الطليعة في الاستطلاعات. وسعد، بالرغم من حدود قدراته ومواهبه، فإنه نال تعاطفاً بعد المحنة التي تعرّضَ لها في الرياض. وهذه هي المفارقة: المحنة التي فرضها محمد بن سلمان على سعد الحريري رفعت من شأنه في الساحة السنّية فيما كانت المفترض أن تنهيه كلّياً. تمسّك أنصاره به ورفضوا الإملاء السعودي. وهذا التمسّك بسعد هو الذي حوَّل اهتمام النظام من السنّة إلى زعامة سمير جعجع. والأخير صار «سنّياً وحيداً» يحظى بقبول في الرياض اليوم. والزعامات السنّية المتنافسة لا تلقى ترحيباً في الرياض، بالرغم من ولائها وإذعانها. فؤاد المخزومي، الذي انتقل فجأة، وبرشاقة من معسكر 8 آذار إلى يمين 14 آذار يحاول لفت نظر السفير السعودي باستمرار لكن الرياض لم تفتح أبوابها له (هل حلّ مخزومي مشاكله القانونيّة في السعوديّة، أم ليس بعد؟) ونادي رؤساء الوزراء مُتجاهَل في الرياض وهو كان قبل سنتين قد فشل في طلب موعد لخمس دقائق مع الملك سعودي إلى أن رتّب لهم رضوان السيّد ذلك الموعد الذي اقتصر على شرب القهوة والتبريكات التي يمنحها مُطيعو النظام السعودي للحاكم هناك.
ليس معروفاً بعد إذا كانت الزعامة الحريريّة قد انتهت. هذا مرتبط كليّاً بالوضع في الرياض (تخيّل أن زعامة نصرالله في لبنان تكون مرتبطة بالوضع في إيران وأن أمر قيادته يخضع لمشيئة الحاكم في إيران. وهذا عن علاقة يصفها كل فريق 14 آذار وإعلام الخليج والغرب «المستقلّ» بأنها علاقة ذيليّة). السعوديّة ستقرّر مصير سعد الحريري فيما ليس بمستطاعه فعل أي شيء إلا الانتظار البطيء.
شكَّل رفيق الحريري زعامة استثنائيّة بكل معنى الكلمة. لم يسبق في تاريخ لبنان المعاصر أن اختصر زعيم سنّي الطائفة برمّتها بشخصه. كان لصائب سلام حضور قوي في بيروت لكنه لم يحظ بالزعامة على نطاق كل لبنان كما كان في حالة الحريري. وكان هناك خروقات لقائمة صائب سلام من قبل عثمان الدنا وعبدالله اليافي (ورشيد الصلح في الدائرة الثانية) أو غيرهم ــــ كان حقدَ صائب سلام على نجاح واكيم لأنه خرق قائمته في انتخابات 1972. رفيق الحريري جمع الزعامة بحلول عام 2000 في يده. لكن أساليبه لم تكن أخلاقيّة أو حميدة. هذا كان يعتمد على النظام السوري ومخابراته الغليظة، وعلى دعم واسع من النظام السعودي ودول الغرب. حتى البنك الدولي كان مسخّراً له: بعد وصول سليم الحص إلى آخر رئاسة حكومة له في عهد إميل لحود في عام 1998، كان البنك الدولي ينشر تقارير وتسريبات في جريدة «المستقبل» تحذّر من وضع اقتصادي مزرٍ. كان البنك الدولي، بشخص رئيسه جيمس ولفنسون الوثيق الصلة بالنزاهة مع رفيق، يريد عودة رفيق الحريري إلى الحكم. استعمل رفيق الحريري سلاح المذهبيّة الذي كانت زعامات بيروت وصيدا وطرابلس التقليدية تتمنّع عن اللجوء إليه. رفيق الحريري أتقن إشهار سلاح المذهبيّة بصورة لم يعرفها لبنان في العلاقة بين المسيحيّين والمسلمين. وكتاب أنطوان سعد عن البطريرك صفير يفضح العقليّة الطائفيّة – المذهبيّة التي كان يعمل الحريري وفقها.
أمّا الطيّب القلب ــــــ حسب مواقع التواصل وإعلام لبنان ــــــ سعد الحريري فهو لم يأنف للحظة من اللجوء إلى سلاح الطائفيّة المذهبيّة في كل حملاته الانتخابيّة. على العكس، بدا سعد مرتاحاً وهو يؤجّج جمهوره طائفيّاً. الخلاف بينه وبين النظام السعودي لم يكن حول الأسلحة المستخدمة أو حول وجهة الصراع. الخلاف كان حول فشله في المهمّة التي أوكلت إليه: أي إشعال فتنة مذهبية طائفيّة كما في العراق من قبل. سعد الحريري فشل في مسعاه بسبب حركة 7 أيّار المضادة ـــــ أي المضادة لإشعال الحرب الأهليّة. سعد الحريري في وضع مجمّد وما عليه إلا الانتظار لأن أمر زعامته ليس في يده، كما أن زعامة والده كانت في يد النظامين السوري والسعودي معاً. إنه بلد السيادة المطلقة لولا… الاحتلال الإيراني!
صحيفة الأخبار اللبنانية