السلطان الجريح!
هي الهزيمة الأثقل والأكثر تعبيراً للرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، شخصياً. فهو الذي اتخذ قرار إعادة الانتخابات، وقال للمقرّبين منه، في الثاني من أيار/ مايو، إن الإعادة ستسفر حتماً عن فوز مرشّح «العدالة والتنمية» بن علي يلدريم. وبعد ذلك بأربعة أيام، كانت اللجنة العليا للانتخابات تقرّر إعادة الانتخابات. المفارقة حينها أن اللجنة قرّرت إعادة انتخابات رئاسة بلدية إسطنبول الكبرى وحدها، على رغم أن الناخب كان وضع في المغلّف الانتخابي أربع أوراق: واحدة لانتخابات المختار، وثانية للبلدية المحلية، وثالثة لمجلس البلدية، ورابعة لرئاسة بلدية إسطنبول، ومع ذلك قرّرت اللجنة إعادة واحدة دون غيرها، ما اعتُبر فضيحة قانونية كبيرة.
في الدلالات والتبعات يُسجّل ما يلي:
1- لم يكتفِ أردوغان برفض نتائج انتخابات 31 آذار التي وصل الفارق فيها إلى 13 ألف صوت فقط بين يلدريم وإمام أوغلو، وكان يمكن ألا تشكّل هزيمة ثقيلة له. بل إن الفارق وصل أمس إلى مستوى قياسي لم يكن يتوقّعه أكثر «المتفائلين»؛ إذ بلغ ما يقارب 800 ألف صوت. وهذا أمر لا يمكن أن «يهضمه» أردوغان ولا بأي طريقة، وأصابه بجروح ثخينة لا يتوقّع أن يشفى منها بسهولة.
2- تتضاعف الهزيمة بأن أردوغان لجأ إلى استخدام أسلحة «محرّمة» وغير أخلاقية، أهمّها وأوّلها الاستنجاد بزعيم حزب «العمّال الكردستاني» المعتقل عبد الله أوجلان، إذ إن الصوت الكردي في إسطنبول، وفي غير إسطنبول، كان حاسماً في فوز مرشّحي المعارضة في عدد كبير من المدن الكبرى. لذا أرسل أردوغان، يوم الخميس الماضي، أحد أساتذة جامعة تونجيلي، علي كمال أوزجان، إلى أوجلان، واستحصل منه على رسالة خطّية يدعو فيها أوجلان ناخبي حزب «الشعوب الديموقراطية» الكردي إلى البقاء على الحياد. في الوقت نفسه، استضافت قناة «تي ري تي» الرسمية التركية الناطقة بالكردية، عثمان، شقيق عبد الله أوجلان، وهو المدرج اسمه على لائحة الإرهاب التركية. كذلك، استضاف أردوغان على عجل، نيجرفان برزاني، الرئيس الجديد لـ«إقليم كردستان»، في قصر دولما باهتشه في إسطنبول، في زيارة لا مبرّر لها ولا تفسير سوى ارتباطها بانتخابات إسطنبول. ثلاث رسائل «كردية» عكست تناقضات خطاب أردوغان وتوسّله كل الوسائل، بما فيها من يصفهم بالإرهابيين، لاستعادة إسطنبول. وفي هذا السياق، أظهرت النتائج المميزة لأكرم إمام أوغلو أن الناخب الكردي في إسطنبول استجاب، ليس لأوجلان، بل لزعيم «الشعوب الديموقراطي» صلاح الدين ديميرطاش، المسجون بدوره، مدركاً أن رسالة أوجلان قد كُتبت، على الأرجح، تحت الضغط.
3- اعتاد أردوغان أن يقدّم نفسه دائماً للناخب بصورة الضحية. لكن الآية انقلبت عليه هذه المرّة، وكان هو نفسه السبب فيها. فقد كانت صورة إمام أوغلو بعد إبطال انتخابات إسطنبول هي ذاك الذي سُرق منه الانتصار. فذهب إلى انتخابات الإعادة بصورة الضحية، وكان انتصاراً أعظم بكثير من انتصار 31 آذار. وبعدما كان الفارق حينها 0.25 % و 13 ألف صوت فقط، إذا بالفارق أمس يصل إلى 9 % (54 مقابل 45 في المئة تقريباً)، ولامس الـ800 ألف صوت (أربعة ملايين و700 ألف صوت مقابل ثلاثة ملايين و921 ألف صوت، بفارق 777 ألف صوت تقريباً) مع نسبة مشاركة عالية جداً (اقترع 85 % من الناخبين). وفي سياق صورة الضحية نفسه، فإن أردوغان حاول إدخال الموتى في السباق الانتخابي، عندما قال إن على الناخب أن يختار بين عبد الفتاح السيسي «قاتل» محمد مرسي، وبين بن علي يلدريم. وهكذا، تحوّل مرشح المعارضة أكرم إمام أوغلو إلى عبد الفتاح سيسي آخر، وكان ذلك ذروة في الاستثمار في وفاة مرسي وتحويل الدموع إلى أصوات في صندوقة الانتخاب. وقد فشل في ذلك فشلاً ذريعاً.
4- فشل أردوغان مرّتين. في المرّة الأولى في خطاب التخوين والتهويل بأن انتخابات 31 آذار هي مسألة مصير وبقاء لتركيا، فخسر إسطنبول وأنقرة وأضنه ومرسين وأنطاليا وغيرها. وفي المرّة الثانية، عندما تخلّى عن هذا الخطاب عشية انتخابات أمس الأحد، ظنّاً منه أن الناخب ينسى وغبي، فكان الردّ الكبير في صندوقة الاقتراع. وبالتالي، فإن الخطاب الفكري لأردوغان بعد اليوم سيكون في مأزق؛ فلا التهديد نفع ولا الاستعطاف نجح.
5- لطالما كان أردوغان هو سيد حزب «العدالة والتنمية». ولم يكن ينظر إلى قادة الحزب الآخرين سوى أدوات لتحقيق طموحاته، حتى إذا تمرّد أحد عليه تخلّص منه ورماه خارج أسوار القلعة الحزبية. هكذا فعل مع عبد اللطيف شينير وعبد الله غول وأحمد داود أوغلو وعلي باباجان وبولنت أرينتش، والكثير غيرهم. اليوم، لم يتبق معه سوى «مدفع واحد ثقيل» هو بن علي يلدريم. ومع إلغاء رئاسة الحكومة وتولّي أردوغان رئاسة الحزب، ومع هزيمة يلدريم، للمرّة الثانية خلال أقل من شهرين في انتخابات أمس، يكون أردوغان قد أحرق المستقبل السياسي ليلدريم، الناجح كرجل أعمال ومشاريع هندسية، ليخلو الحزب من أي شخصية ذات وزن. وهذا سيسهّل بالتأكيد عمليات الانشقاق داخل الحزب والتمرّد على أردوغان، خصوصاً أن داود أوغلو وعبد الله غول وباباجان يتحرّكون منذ أشهر لتأسيس حزب أو أكثر يأخذ من قاعدة «العدالة والتنمية» ويضعفه ويضعف معه أردوغان. ويمكن القول إن خسارة إسطنبول أمس قد تكون بداية تحلّل حزب «العدالة والتنمية» وتفكّكه.
6- ستحرم خسارة أردوغان لبلدية إسطنبول حاشيته والمقرّبين منه من الاستفادة والتصرّف بعشرات مليارات الدولارات على مزاجهم وفي مشاريعهم الخاصة، خصوصاً أن اقتصاد إسطنبول وحده يؤمّن حوالى 30% من الناتج القومي التركي والجزء الأعظم من صادرات تركيا. خسارة إسطنبول إضعاف اقتصادي مهم لقوة «العدالة والتنمية» والحاشية.
7- هزيمة أمس هي نتيجة طبيعية لخطأ أردوغان في تحويل التفاف القوى السياسية حوله بعد محاولة الانقلاب العسكرية الفاشلة، إلى خطّة لتغيير النظام السياسي إلى رئاسي يحصر الصلاحيات بيده وحده، مهمّشاً الأحزاب الأخرى. فكانت النتيجة غضب المعارضة وتوحّدها ضدّه، وانقسام حزب «الحركة القومية» ليتشكّل «الحزب الجيّد» الذي كان له، في سياق الحاجة لأي نقطة انتخابية، دور مهم في إسقاط بن علي يلدريم، حيث نال الحزب حوالى 7% في انتخابات 31 أيار. وبدلاً من نظام برلماني يتيح له البقاء في السلطة فترة طويلة، فقد أعطى أردوغان أولوية لإنشاء نظام رئاسي يحتاج فيه إلى الفوز بـ50 % على الأقل، وهو ما بدأت علامات فشله أمس الأحد.
8- في المقابل، فإن خطاب أكرم إمام أوغلو، بعد فوزه أمس، قدّم شخصية سياسية مميّزة تتجاوز رئاسة بلدية إسطنبول. خرج بخطاب بعيد عن التشفي والحقد، مادّاً يد التعاون والمصالحة لرئيس الجمهورية، وهو خطاب لا يتناسب مع الصورة المعروف بها أردوغان أمام الرأي العام. خطاب إمام أوغلو أمس، الداعي إلى أن يكون ممثلاً لكل فئات الشعب التركي، أعاد الاعتبار للعلمنة في تركيا ولأتاتورك في مواجهة حملة تديين النظام وأسلمة الدولة. كان الخطاب خطاب «الزعيم الجديد» لتركيا، والمرشح القوي للمعارضة لرئاسة الجمهورية بوجه أردوغان عام 2023. كما أن إمام أوغلو وضع الكرة في ملعب أردوغان للتعاون، لأن الانطباع أن «العدالة والتنمية»، كونه يملك أكثرية في مجلس البلدية وكونه هو السلطة السياسية، سوف يحاول إضعاف إمام أوغلو في رئاسة البلدية من خلال عدم التعاون معه وإظهاره بمظهر العاجز.
9- ستكون لهزيمة أمس تبعات على الإسلام السياسي التركي الذي سيجد نفسه للمرّة الأولى بدون قيادة فعلية، عدا شخص أردوغان، وأمام هزيمة كبيرة لم يكن يتوقّعها، الأمر الذي سيدفعه إلى مراجعة مرحلة بكاملها، مع ما يمكن أن يتخلّل ذلك من صراعات وتصفيات وتحميل مسؤوليات.
10- ليست هذه هزيمة في معركة داخلية فقط. فأردوغان كان يحاول دائماً أن يظهر بمظهر الزعيم القوي داخلياً ليستخدم هذه القوة ورقة في سياساته الخارجية. سواءً اعترف أردوغان أم لا، فإن انتخابات أمس الأحد ستضعف مواقفه في سياساته الخارجية، وستظهره بمظهر الزعيم الذي فقد أو بدأ يفقد قاعدته والدعم الشعبي له، وسيتعامل الخارج معه على أنه الرجل المثخن بالجروح أو «البطة العرجاء»، خصوصاً أن ليس من انتخابات قريبة يسعى أردوغان من خلالها إلى الانتقام من هزيمة أمس، وهو الذي كان يقول دائماً إن الردّ على الخصوم هو في صندوقة الاقتراع. وستبقى بالتالي هذه الهزيمة ترافقه كظلّه حتى العام 2023، ما لم تتم الدعوة لانتخابات مبكرة هنا أو هناك.
تركيا، بعد انتخابات أمس الأحد، دخلت، بكلام إمام أوغلو، مرحلة جديدة. وليس مبالغة القول إن العدّ العكسي لمرحلة بكاملها قد بدأ فعلاً، فيما سيتوقّف شعار «كل شيء سيكون جميلاً جداً» على أداء إمام أوغلو، ووحدة المعارضة.
صحيفة الأخبار اللبنانية