السلم الثوري (عباس بيضون)
عباس بيضون
كان هذا بالتأكيد مفاجئاً. كان من جملة أمور باغتتنا في الأعوام الأخيرة التي حملت ما تعورف عليه بالربيع العربي، أمور حيرتنا حتى كدنا نضيع عن أنفسنا. ألم تبد الأحداث كأنها سقطت علينا من عل وكأن قدرنا تربص بنا. من كان يظن أننا نحتقن بهذا العطش للانتفاض، بهذه اللهفة للخروج. من كان يتوجس أن الشوارع ستمتلئ بين يوم وليلة وسيزحف الجمهور رغم القنص المتأهب له وسيسير ويتابع على جثثه. ليعاود الكرّة في اليوم التالي والأيام التالية. من كان يصدق أن القتل لن يصده والرصاص لن يردعه والمذابح الجماعية لن تسد عليه المسيرة. عهدنا أن مذبحة واحدة تكفي لتخرس الجمهور وترده إلى وكناته، عهدنا أن العنف المتطاول لا بد سيخلي الشوارع ويقفل الأبواب، أما أن يتحول الخروج، بفعل العنف نفسه، إلى انتفاضة وإلى ثورة، ويتأجج ويلتهب أكثر فأكثر فهذا ما لا عهد لنا ولا عهد لغيرنا به. أما أن يحدث ذلك في بلاد تسورها المخابرات وتحصي عليها أنفاسها وتجثم فوقها وتتنصت إلى كل دبيب فيها فهذا هو العجب. فجأة مات الخوف ومات الاحتياط وخمد التوجس وزال الحذر. فجأة لم يعد للمخابرات رهبة ولا مناعة ولا حول.
لكن ما كان مفاجأتنا الكبرى هو الحراك السلمي. لم يكن السلم في يوم محموداً في خطابنا السياسي، بل لم يكن له ذكر تقريباً. لم نتغن بالسلم ولم نتمدح به ولم نهتف له ولم نرفعه شعاراً ولم يخالط أدبياتنا ولم يكن له موطئ في تقليدنا وتعليمنا ولا اثر في دعاوينا وقضايانا. أغلب الظن أن السلم كان له في قاموسنا معنى المحايدة والتجنب والاحتياط. أتكلم هنا عن الخطاب لا عن البراكسيس فالخطاب قد لا يكون سوى الواقع معكوساً. والخطاب العنيف لم يكن سوى تبرير للعنف السلطوي ومديح. لكن الخطاب العنفي لم يكن بلا تقليد أو تراث أو ذاكرة. موروثنا الأدبي كان في جملته موروثا حربيا، وإذا كان هناك من عمود لهذا الأدب فهو الحرب، أفضل القصائد أو بعض أفضلها كان مقطعات ملحمية. الحرب من أركان الملك وتكاد تشمله والفارس فوق الشاعر وفوق الكاتب. لقد وصل إلينا تصدير للعنف وتفضيل له وإسقاط له على التاريخ وعلى الدولة وعلى السياسة. ما زال هذا الأدب من مروياتنا. ليس مروياتنا فحسب بل حشو ذاكرتنا وحشو نفوسنا وتعليمنا وحكمتنا وخطابنا السياسي. لا نكاد نجد في أدبياتنا مديحاً للسلم، قد نجد حضاً على التحابب والتساكن والتسامح لكننا قلما نجد تغنيا بالسلم أو حضا عليه.
ليس الأدب البلاطي وحده على هذه الحال فالأدب الشعبي أيضاً أدب حروب وإذا قرأنا الزير سالم وتغريبة أبي زيد الهلالي وعنتر لا نقرأ الا عن معارك طاحنة تطير فيها الرؤوس وتسيل الدماء أنهاراً. لعل هذا الموروث بشقيه كان وراء ما سمي في وقتنا بالشعر الوطني. فهذا الشعر يستلهم الخيال البدوي الفروسي. المناضل هو ظل الفارس وولاؤه نوع من الولاء القبلي وقيمه لا تخرج عن القيم البدوية. وإن كان هذا تراثنا وهذا تخييلنا وهذا خطابنا لا نجد للسلم مكاناً لا في الجهادية الدينية ولا في العنف الثوري ولا في الصراع الطبقي. فكل هذه أدوار مختلفة إن اجتمعت على شيء فهي تجتمع على عبادة العنف والخيال الحربي. ولعل العنف الجهادي والعنف العقائدي والعنف المخابراتي تكاد تستقي من المصدر ذاته، فما يجمع الثلاثة هو نوع من تقديس العنف وتبريره واعتباره قيمة بحد ذاته.
يفاجئنا لذلك في جملة ما يفاجئنا تلك الدعوة السلمية فقد سار المتظاهرون في مصر وفي تونس وفي اليمن وفي سوريا (بداية) تحت الرصاص واكتفوا بحمل قتلاهم وتوديعهم والعودة مجدداً إلى الساحات نفسها غير عابئين بما ينتظرهم فيها. هذه السلمية صارت بمثابة الدعوة واستحالت في نظر كثيرين أقنوما سياسيا مما أعادنا إلى اللاعنف الغاندي. وقد بلغ من الإصرار عليها وتكريسها حدا جعل ثوار اليمن البلد الذي يعج بالسلاح يستنكفون عن استعمال السلاح، عارفين إلى أين سيجرهم استعماله. هذه السلمية كانت رداً على نظرية الحرب الراسخة في تعليمنا وسياستنا وتكويننا الاجتماعي. لقد كانت بحد ذاتها ثورية لأنها خروج على تقليد سياسي وثقافي وديني راسخ. لقد كانت مفاجئة لأنها تحمل هذا الوعي المضاد الذي لم يفكر أحد بإمكانه او احتمال وجوده.
يمكننا هكذا أن نفهم أن لجوء الأنظمة إلى السلاح في مصر وسوريا واليمن كان بسبب ضيقهم بهذه السلمية ووعيهم لدلالتها وقدرتها. لقد نشأت هذه الأنظمة من زعم «ثوري» كان العنف قاعدته وأساسه. هذا العنف المسلط والمخابراتي كان التمويه الثوري الذي يتستر به النظام في عدوانه على المعارضين والمحتجين. لذا تبدو «السلمية» نقضاً أساسياً لحجة النظام. تبدو السلمية دحضاً لركائز النظام الراسخة في التراث وفي الخطاب الراهن. سلمية الحراك تشكك بكل المخيلة الحربية التي قامت بفضلها الأنظمة العسكرية كما تشكك بأسسها. ليست لهذه الأنظمة ومشتقاتها سوى عقيدة واحدة هي الحرب والسلمية لقلب كل المعادلة. ليس العنف المفرط الذي جابهت به الأنظمة الحراك السلمي إلا نزوعاً لكسر سلميتها التي تدحض ذريعة وجودها «الأنظمة» أصلاً. نجحت الأنظمة (عدا اليمن ومصر وتونس التي يستحق ثوارها تحية بهذا الصدد) في تدمير سلمية الحراك وأجبرت المنتفضين على قبول العنف والدعم العسكري الذي جاءهم لهذه الغاية. نجا المنتفضون المصريون من هذا الامتحان الدموي وخرجوا منه بشجاعة وعزيمة أخلاقية لكن النظام الجديد سارع إلى العنف وجعله على كاهل الانتفاضة الشعبية وأشركها فيه. ليس في تونس لحسن الحظ أمارات لجوء إلى العنف، لكن عنف النظام أغرق الانتفاضة السورية وشتتها ومزقها وجعلها أمام مستقبل مسدود. مع ذلك ينبغي أن نتذكر أن للسلمية ثورتها وأن الحراك السلمي سلف ويسلف الانتفاضات العربية ذخراً أخلاقياً ونقدياً وثورياً أيضاً.