«السمسار» تفضح تاريخ مصر الحديث وألغازه
ككلّ الروايات المتجذرة في الواقع، تبدأ رواية «السمسار» للمصري عمرو كمال حمودة (الثقافة الجديدة – القاهرة) بجملة تقليدية تنفي واقعية العمل، على أنّ التشابه بين الشخوص وأبطاله هو محض مصادفة، باعتبار الرواية عمل أدبي من خيال المؤلف.
لكنّ الجملة الافتتاحية هذه تأخذ معنى معاكساً، فكأنّ الرواية تؤكد عبر التنويه واقعية الأحداث، بل تُحفّز القارئ على الربط بينها وبين أحداثٍ وشخصيات في الواقع.
السمسار روايةُ «شخصية» في المقام الأول كما يبدو من العنوان. تستحوذ شخصية منتصر فهمي عبدالسلام، على الجزء الأكبر من مساحة السرد، بينما تأتي الأحداث في المرتبة الثانية، علماً أنها كثيرة ومتشظية على مدار ستة عقود من عمر الشخصية، ومن ثم تُلقي الضوء على مرحلة مهمة من تاريخ مصر منذ 1952 إلى 2011.
بطل الرواية هو شخص انتهازي أنيق، ناعم، يسعى منذ تخرجه في الجامعة إلى هدف محدد: تكوين ثروة طائلة، من دون النظر إلى طريقة الحصول عليها. شخصٌ أفقُه مفتوح بلا سقف، لا يحول بينه وبين هدفه أي مراجعات أخلاقية أو دينية أو إنسانية. رجل متلون، مثَلُه الأعلى جوزيف فوشيه، الذي كان يجيد الانتقال بسهولة من حزب إلى حزب آخر مضاد، إبان الثورة الفرنسية.
بالتلوّن والخداع؛ استطاع منتصر أن يبقى، خلال ثلاثة عهود مختلفة، واضعاً هدفه نصب عينيه، لا يرى الآخرين ولا يشعر بهم. وحين تسأله صديقته وشريكته الإسرائيلية؛ سيلفيا ريكنالي إن كان لمؤسساته في مصر برامج لتنمية المجتمع، فيقول إنه لم يفكر في شيء كهذا، وحين تشير إلى العشوائيات على جانبي الطريق الدائري، في القاهرة، فإنه يجيب بكل بساطة: «طب وأنا هاعمل لهم إيه…».
بدأ منتصر حياته العملية بلا رأس مال، لكنه درس التجارة والاقتصاد والقانون، وتفتح وعيه على السمسرة مبكراً؛ متخذاً من سيرة فوشيه التي كتبها استيفان زفايغ نبراساً إلى أن صار رجل الأعمال الأبرز في مصر، وصاحب أكبر استثمارات سياحية في شرم الشيخ وصاحب شركة لنقل الغاز إلى إسرائيل.
تدور أحداث الرواية في عالم الطبقة المترفة ذات الصلة بدوائر الحكم والسلطة والنفوذ والمصالح ورجال الأعمال ونجوم المجتمع. عالم مخملي لا وجود فيه للطبقة الدنيا. تتحرك الشخصيات في أروقة فنادق كبرى ونوادٍ ومطاعم شهيرة، مرتدية الأنيق من الملابس وتدخن السيجار وتتنقل باليخوت والطائرات.
وكان منتصر- بحدس السمسار الذي يُميزه- يؤمّن نفسه وثروته في شكل دائم تحسباً لغضب الفقراء. وحين نزل هؤلاء إلى الميادين والشوارع، في تظاهرات مليونية، بادر منتصر فوراً، بالفرار بأمواله.
وتأتي الإثارة في هذا العالم الروائي من الاشتباك بمهارة مع وقائع آنية، فلا تعرف الحدود بين ما هو حقيقي وما هو متخيل، ليأخذ القارئ من الواقع ما يضيفه إلى أحداث الرواية، ومن الرواية ما يضيفه إلى أحداث الواقع الذي يراه مُجَسَّداً، كما يأتي التشويق من تلاحق الأحداث في فضاء روائي فسيح ومتنوع، فضلاً عن غرابة الشخصية وحسها الاستخباري.
تزدحم الرواية بأحداث قد تكون فيها نسبة التخييل ضئيلة. فأماكن عمل منتصر وتحركاته في النوادي الاجتماعية والرياضية مرصودة بدقة، والتحاقه بجهاز الاستخبارات وعملياته وسفرياته في الدول العربية والأجنبية وأزماته، تشير إلى أنّ لا شيء متخيل.
تبدو الأمور كذلك بداية من أسماء الفنادق والمقاهي والمطاعم والوصف التفصيلي أحياناً للمشروبات الروحية وأنواع الأطعمة، إلى العلاقات النسائية، إلى الأحداث التي تبدو متطابقة مع ما شهده الواقع، وصولاً إلى الشخصيات السياسية والموظفين المتغلغلين في دوائر الحكم وأجهزة الدولة السيادية بما تمثله له من حماية، وانتهاءً بتغلغله هو شخصياً داخل أسرة رئيس الدولة، حتى من قبل أن يتولى الحكم ويمكث فيه ثلاثين عاماً.
تفهم معظم شخصيات الرواية قواعد اللعبة جيداً، فلا تؤرقهم مراجعات أخلاقية أو قيم دينية أو أعراف أو تقاليد. نادين بركات؛ ممثلة لعوب تتزوج زواجاً سريعاً من عصام؛ رجل الأعمال المقيم في لندن بعد أن يتعارفا في الطائرة. هي لا تريد أكثر من أن تنجب طفلة من رجل ثري لتضمن مستقبلها. وهو بدوره لا يريد زوجة تقليدية، فيوافق على الزواج من نادين التي تتركه بعد أسبوع من الزواج لتصوير فيلمها الجديد.
نادين تصطحب منتصر إلى شاليه على هضبة الهرم ليمضيا أوقاتاً سعيدة. عصام يعطي خمسة آلاف جنيه لمنتصر، مقابل مساعدته في الحصول على تعاقدات للاستيراد وإنشاء شركة دنماركية للملاحة.
كلّهم يفهمون قوانين اللعب؛ حتى النائب عن حزب «المصري الجديد» الذي استجوب الحكومة حول وقائع فساد شابت عملية نقل معدات المعونة العسكرية الأميركية. لم يكن هدف الاستجواب كشف الفساد كما يبدو، وإنما الضغط على الحومة لتمنح الحزب وعداً بأن تسهل حصوله على حصة من مقاعد البرلمان.
أما عبدالعظيم (زمزم)، الملحق العسكري في واشنطن والذي صار وزيراً للدفاع، فيحصل على نسبة من عمولة نقل المعدات العسكرية بالاتفاق مع منتصر ونائب رئيس الدولة، الذي يتولى الرئاسة لاحقاً، ولا يجد مانعاً من خوض مغامرات نسائية، بما يناقض المعروف عن جديته الصارمة في العمل.
الاستثناء؛ موجود، ويتمثل في ليلى؛ خريجة الجامعة الأميركية وصديقة أخت منتصر، التي تحصل على الدكتوراه من جنيف، وحافظ فرهود رئيس جهاز المخابرات، والدكتور فريد هيكل وابنه هشام.
في عصر بات مزدحماً بكل ما هو مدهش من الوسائط الإلكترونية والقنوات الإخبارية والوثائقية، تتدفق رواية «السمسار» بإيقاع لاهث، عبر لغة سردية شفافة ودقيقة؛ تخلو من المجاز المباشر، فتفرض الدهشة نفسها باعتبارها عنصراً أساسياً لا تكتمل من دونه الكتابة الروائية.
صحيفة الحياة