
أمام سوريا في العام الجديد جملة تحديات اقتصادية، وهي لا تقل خطورة وأهمية عن التحديات السياسية والاجتماعية الأخرى التي تنتظرها.
هيمنت تطورات الأوضاع الاقتصادية والمعيشية على اهتمامات السوريين في العام الأول على سقوط النظام السابق. فالأيام الأولى من عمر التحوّل السياسي الذي شهدته البلاد، حملت معها جملة من القرارات الاقتصادية الصعبة على حياة شريحة واسعة من السوريين. ومع ذلك، فإن الآمال الشعبية ظلت موجودة بإمكانية أن تحمل معها الأيام التالية مزيداً من الانفراجات لجهة وقف التدهور الاقتصادي المستمر منذ سنوات، وحدوث تحسن ملحوظ على مستوى الدخول والأسعار.
عموماً، شهد عام 2025 بداية تحوّلات اقتصادية جذرية في المشهد الاقتصادي السوري، والذي رسمت ملامحه منذ ما يزيد على ستة عقود من الزمن. بعض هذه التحوّلات كان لها تأثيرات سلبية على حياة شريحة ليست بالقليلة من السوريين، وبعضها الآخر مثلت بداية خروج البلاد من أزمتها الاقتصادية، التي بدأت مع تحوّل المظاهرات السلمية إلى “نزاع” مستمر أتى على معظم مقدرات البلاد وإمكانياتها، وتسبب بحدوث انهيار شامل في مؤشرات التنمية وارتفاع في معدلات الفقر والبطالة والحرمان.
نحو تحرير اقتصادي
منذ تسلمها مهماتها كحكومة تصريف أعمال، اتخذت حكومة الإنقاذ لـ”هيئة تحرير الشام” برئاسة محمد البشير قرارات اقتصادية عدة مثلت إشارة واضحة إلى ماهية السياسة الاقتصادية الجديدة التي سيصار إلى اتباعها. فكان أن تم في صباح الثامن من ديسمبر 2024 رفع أسعار جميع السلع الرئيسية المدعومة في عهد النظام السابق.
فمثلاً، ارتفع سعر ربطة الخبز من 400 ليرة إلى 4000 ليرة، ولتبقى بذلك مدعومة بنحو 40-50%، فيما جرى تحرير أسعار جميع المشتقات النفطية وفقاً للسعر العالمي وتسعيرها بالدولار الأميركي، الأمر الذي تسبب بارتفاع كلف الإنتاج المحلية بنسب كبيرة، وامتصاص التحسن الذي طرأ على سعر الصرف وأسعار معظم السلع والمنتجات عقب انهيار النظام السابق، والكلف الكثيرة غير القانونية التي كان يضطر إلى دفعها التجار والصناعيون.
الإجراء الآخر كان مع موجة التسريح الواسعة التي لم تشمل فقط عناصر الجيش والشرطة والأجهزة الأمنية السابقة، وإنما شملت أيضاً الكثير من الموظفين في مختلف مؤسسات الدولة وجهات القطاع العام بحجج مختلفة، لكن محركها وهدفها كانا واضحين، محاسبة الأشخاص المحسوبين على النظام السابق، ولو على الشبهة.
ولا توجد إلى الآن تقديرات رسمية أو غير رسمية لعدد الموظفين الذين جرى تسريحهم أو إلغاء عقودهم أو منحهم إجازات مأجورة، لكن معظم تصريحات المسؤولين والباحثين تعترف بارتفاع معدل البطالة إلى أعلى مستوى لها خلال سنوات الحرب، مناهزاً بذلك عتبة 60%. ثم جاءت الأحداث الدامية التي شهدتها مناطق الساحل والسويداء، والانتهاكات المستمرة في حمص وحماة، لتضيف عاملاً آخر إلى زيادة حدة الضائقة الاقتصادية، وإحكام قبضتها على معيشة ملايين السوريين ممن يعيشون في تلك المناطق، الذين فقدوا مصادر الدخل، وأحياناً فقدوا المعيل أيضاً.
على المقلب الآخر، حاولت الإدارة الجديدة تخفيف حالة الاحتقان السائدة بعد تحرير أسعار معظم السلع المدعومة، وزيادة جرعة التفاؤل الشعبي بإجراءاتها، فعمدت إلى زيادة رواتب وأجور جميع المتقاعدين والعاملين في مؤسسات الدولة بنسبة 200% (بعد أن كانت وعودها الأولية تقول بزيادة نسبتها 400%) بحيث بات متوسط الأجور نحو 90 دولاراً بعد أن كان نحو 40 دولاراً. إضافة إلى الإعلان عن مسار جديد يتم من خلاله إجراء زيادات خاصة تتناسب ومهمات كل مهنة وقطاع، وكانت بداية التطبيق من القضاء.
إلا أن الحدث الأهم، والذي حظي باهتمام حكومي خاص، كان التوقيع على مذكرات تفاهم لإقامة مشروعات عقارية، وسياحية، وخدمية بكلفة إجمالية وصلت إلى 27 مليار دولار.
ورغم الجدل الذي أثير حول “وهمية” بعض الشركات وجدية شركات أخرى، فإن المعلومات المتداولة تتحدث عن وجود قرار سياسي سعودي، قطري، وتركي بالاستثمار في سوريا، وإن بشكل منفرد أو ثنائي، وهذا يمكن ملاحظته في الزيارات المكثفة للوفود الحكومية والاقتصادية المتبادلة مع تلك الدول، وبالتالي فإذا كان الشك يساور البعض حيال نسبة تنفيذ مذكرات التفاهم الموقعة نتيجة المخاطر التي لا تزال موجودة، فإنه في المقابل، لا يعني أن الفرص المطروحة ليست مغرية بالمفهوم الاقتصادي إلى درجة المخاطرة كما في المرافق السيادية كالمرافئ والمطارات، وكذلك في قطاعات النفط والطاقة والعقارات وغيرها.
وقبيل نهاية العام بأيام قليلة، أسدلت الولايات المتحدة الأميركية الستار على إحدى عقوباتها الأكثر قسوة في التاريخ، والمتمثلة في قانون “قيصر”، والذي أسهم في انهيار الأوضاع الاقتصادية في عموم سوريا لسنوات، وبالتالي تضرر معيشة ملايين السوريين، وعجز المؤسسات الحكومية عن تأمين أبسط الاحتياجات الرئيسية لهم من طاقة، مشتقات نفطية، نقل، خبز، دواء، وغير ذلك. وعليه، فإن يصح القول إذا كانت هناك من بادرة أمل في عام 2025، فهي كانت مع الإعلان عن إلغاء واشنطن العمل بقانون “قيصر”. وهو إجراء، وبغض النظر عن خلفياته والظروف التي دعت واشنطن إلى اتخاذه، سيكون بحاجة إلى وقت طويل لمحو ما خلفه من تأثيرات سلبية على حياة السوريين.
عام الحسم
أمام سوريا في العام الجديد جملة تحديات اقتصادية، وهي لا تقل خطورة وأهمية عن التحديات السياسية والاجتماعية الأخرى التي تنتظرها.
فالعمل على تحسين الوضع المعيشي للسوريين باعتباره الهدف النهائي لكل السياسات الاقتصادية، والفيصل الرئيس في الحكم على مدى نجاعة التحول السياسي الذي شهدته البلاد، لاسيما أن “شماعة” العقوبات قد زالت، يتطلب تحقيق العمل على تحقيق اختراقات نوعية على جبهات عدة أهمها:
– إن تحقيق أي إنجاز اقتصادي حقيقي مرتبط بقدرة السلطة الجديدة على الانتقال فعلاً من عقلية “الجماعة” أو الفصائل إلى عقلية الدولة، وما يعنيه ذلك من تغليب الكفاءة على الولاء في جميع مفاصل العمل، إشراك جميع فئات المجتمع وشرائحه في عملية إعادة الإعمار، التنمية المتوازنة، وشفافية الإجراءات والقرارات والمشروعات، الخ.
– إعادة دوران عجلة الإنتاج المحلي، سواء عبر إعادة تأهيل وتشغيل المنشآت والأراضي الزراعية المتضررة بسبب الحرب أو استقطاب استثمارات محلية وخارجية ووضعها موضع التنفيذ. الأمر الذي يتطلب توفير بيئة مناخية للأعمال جيدة ومنافسة تختصر الإجراءات، تقلل الكلف، تحمي الحقوق، وتصون الملكيات. وهذا ليس فقط من أجل استقطاب الاستثمارات الأجنبية، فالأهم هو الاستثمارات المحلية الصغيرة والمتوسطة التي تسيطر على النسبة الأكبر من تركيبة الاقتصاد السوري.
ومع زيادة الإنتاج المحلي ستكون هناك آلاف الفرص المتاحة لطالبي العمل، تنشيط القطاعات الاقتصادية والخدمية في البلاد، زيادة الصادرات وواردات القطع الأجنبي، وتوفير السلع والمنتجات في الأسواق المحلية بأسعار وجودة تنافسية.
– زيادة الرواتب والأجور للعاملين في مؤسسات الدولة والقطاعين العام والمشترك بنسبة كافية لتلبية الاحتياجات الأساسية للأسر وردم الفجوة المتشكلة منذ عقود مع الأسعار. وغير ذلك، فإن ربع عدد الأسر السورية تقريباً سيبقى في حالة فقر وحرمان، وبالتالي انخفاض إنتاجية العامل وبقاء معدلات الفساد على ما هي عليه.
– رفع مستوى جودة الخدمات الصحية والتعليمية المجانية المدعومة لشريحة واسعة من المواطنين. وهذه الخدمات استمرت في التدهور خلال عام 2025 رغم تدفق المساعدات ورفع العقوبات، ويتخوف الكثيرون أن يكون لدى الإدارة الجديدة المشروع نفسه الذي كان يعمل عليه النظام السابق لجهة تحديد حجم الخدمات التعليمية والصحية المجانية وحصرها بفئات محددة تحت شعار” إيصال الدعم لمستحقيه”.
– تأسيس شبكات حماية اجتماعية على غرار جميع دول العالم. وهذه باتت ضرورة ملحّة مع تحرير أسعار جميع السلع المدعومة سابقاً، باستثناء الخبز الذي لا يزال مدعوماً بمقدار النصف تبعاً لتكاليف المؤسسات المعنية غير الموثوقة. وكلما تأخر العمل بهذه الشبكات التي كانت وزارة العمل في الحكومات السابقة قد عملت عليها ووصلت إلى مرحلة وضع استمارة وتصميم تطبيق إلكتروني، فإن الاحتقان الشعبي سوف يعاود ظهوره بعد زوال نشوة سقوط النظام السابق.
لا خيار ثالثاً
لا شك أن ما تسببت به حرب استمرت لنحو 15 عاماً من انهيار وخسائر لن يرمم في عام واحد، لكن ما سيحدث في العام الجديد سيكون بمنزلة استشراف لما ستحمله الأعوام التالية، وعليه فإما أن سوريا ستسير نحو الأفضل اقتصادياً وكما يطمح شعبها، أو أنها ستكون ميداناً لتجارب جديدة من المصالح والصراعات الداخلية والخارجية.
الميادين نت



