السوف عند محمود درويش

ان كنت من اصحاب اليقينيات…
تنح جانبا..
ودع الشعر يمر.

اليوم، لحظة الكتابة هذه… هو التاسع من آب/ أغسطس 2017. تذكرت أنه يوم يؤرخ لغياب محمود درويش للمرة العاشرة.

في ذلك اليوم البعيد زمنياً، القريب انفعالياً، لم أكن متأكداً أنه مات، بالنظر إلى قوة حضوره، طوال نصف قرن في الواقع وفي الذاكرة، في الثقافة، وفي محتويات الأنواع المتعددة من زهور الأمل التي كان يحبها ويسقيها.

ولكنني، وقبل رحيله بشهرين، كنت قد تحدثت معه واقترحت… تعال إلى سورية دون أن يستقبلوك ودون أن يحتفلوا بك، تعال دون حضرة الشاعر، وحضور الشعر… تعال كما كنت في قرية، لم تعد بيننا على هذه الأرض، هي “البروة” في فلسطين، ببنطال من الريح، يتيح لك أن حصانا يشبه الحصان الذي كان جدك يطعمه لوز فلسطين من الغصن المتدلي في باحة الدار.

تعال لنمشي في الغابة التي لم يطأها أحد، في جبال سورية، ونسبح في نهر جبلي تجازف الطحالب فيه لكي تتفتح كزهرة عطرة. وإلى جوار ضفدع الحياة وهو يرثي مسبقاً الجفاف المؤكد القادم. تعال لترى من لا يعرفك، ومن لم يقرأ لك، ومن يعدّ لك مائدة من يدين تشبهان نصك الفقير القديم المليء بحنان لم يتكرر في جميع أطعمة المدن الغريبة.

تعال… بعيداً قليلاً عن أسوار رام الله، وأسوار القدس، وحواجز غزة، وفظاظة اليقين في وجوه الجند بأنهم ورثة الخلود، وحراس فضيلة الدين الأول، والشريعة الأولى، والمجازر الشريفة الأولى.

وعد محمود، قائلاً: نسق هذا “الرحيل” الجميل مع طاهر رياض. وسافر محمود إلى أمريكا،لجراحة ثالثة للقلب…

شبه واثق أنه عائد.

………………….

دائماً، بعد ذلك، أعيد كتابة وتحبير هذه الجملة، التي خططتها على حائط بيتي:

“أنا أحيا بحياء…
كأنني ضيف على غجري
على أهبة الرحيل”

وفي كل سنة، وقد يكون هذا مؤلماً بمرور الأيام، وليس السنوات، أفكر: من أية زاوية سيؤخذ الوجه النبيل الجميل لمحمود درويش؟ فاكتشفت، كلما أمعنا في غيابه، أن حضوره ينبع من يقينه بغيابه: فقد كانت فلسطين تبتعد كلما اشتدت نبرة المطالبة بحضورها، وكان الوطن الفلسطيني أحد أهم منحوتات حروف المستقبل وايقونات انتظاره : “السين وسوف”.

وفي لحظة ما انتبهت إلى ما أريد أن يكون ذا مغزى: من فرط الاستعمال القديم، للسين وسوف في شعر درويش… حطت، كالفراشة على لسانه لثغة محببة بهذين الحرفين:

“سنطردهم من إناء الزهور وحبل الغسيل
سنطردهم عن حجارة هذا الطريق الطويل
سنطردهم من هواء الجليل”

وفي لحظة أخرى، لحظة عبث الحياة العربية… نكتشف تلك الجملة البائسة، العلامة المسجلة على بضاعة الموت العبثي:

“حسناً الموت أصغر حل لأكبر مشكلة…الحياة”

لكن درويش يقول :

“كأن شيئاً لم يكن
كأن شيئاً لم يكن
جرح طفيف في ذراع الحاضر العبثي
والتاريخ يسخر من ضحاياه ومن أبطاله
يلقي عليهم نظرة ويمر…
هذا البحر لي.
هذا الهواء الرطب لي
واسمي، وإن أخطأت لفظ اسمي على التابوت… لي .
أما أنا وقد امتلأت بكل أسباب الرحيل…
أنا لست لي.
أنا لست لي.”

وداعا محمود للمرة العاشرة .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى