السوق تفنِّد نظرية ذروة النفط

نحن نرى العالم في قصص، لكن القصة لا تسبق الحقيقة دائما. في الأسواق غالبا ما نلجأ إلى تعديل قصتنا ـ ورأينا في العالم ـ لتتناسب مع الحقيقة المتعلقة بتحركات الأسعار. وما من سوق تفسح المجال لروايات كبرى مثل سوق النفط.

في المؤتمر السنوي لمعهد سي إف إيه، وهو هيئة مهنية للمستثمرين اجتمعت الأسبوع الماضي في فانكوفر، كانت هناك روايات كبرى تتعلق بمستقبل النفط ينبغي أخذها على محمل الجد. لكن في المرة الأخيرة التي زار فيها المؤتمر كندا، في فانكوفر عام 2008، كانت هناك أيضا قصة نفط كبرى. كيف تم ذلك؟ آنذاك كانت أسعار النفط الخام في مستوى قياسي، في طريقها للوصول إلى ذروة جنونية بلغت 150 دولارا للبرميل الواحد بعد ذلك بشهرين. وهذا الارتفاع أشعل رواية جديدة: قصة ذروة النفط.

أشار دعاة ذروة النفط بشكل صحيح إلى أن إمدادات النفط في باطن الأرض محدودة، وفي مرحلة ما سيصل الإنتاج إلى الذروة ومن ثم يبدأ في التراجع. وعند تراجع العرض، فإن الأسعار سترتفع لتقنين استخدامه.

في أرقام الإنتاج العالمية، كان من الممكن أن نستشف حدوث انخفاض طفيف، أو على الأقل تراجعا قبيل ارتفاع الأسعار. استنادا إلى أرقام وكالة الطاقة الدولية، كانت تلك فترة تجاوز فيها الطلب العرض – مدفوعا بالصعود الذي لا يمكن إيقافه على ما يبدو في الصين – إلى حد غير معهود. ومن ثم أصبح عقيدة بالنسبة إلى كثيرين أن عرض النفط بلغ ذروته وأن الأسعار لا مجال أمامها سوى أن ترتفع.

أخذتُ هذه الفكرة على محمل الجد، لكنني تلقيت كثيرا من الإساءة من دعاة “ذروة النفط” لعدم بذلي مزيدا من أجل تنبيه قراء “فاينانشيال تايمز” عن المصير المحتوم المقبل. كان اهتمامي أقل بالفكرة التي مفادها أن الأسعار المرتفعة من شأنها أن تستثير مزيدا من الإمدادات، رغم أن هذا ما يمكن أن يكون قد توقعه الفصل الأول من أي كتاب دراسي في علم الاقتصاد. وهذا بالطبع ما حدث.

عملت الأحداث منذ ذلك الحين على تفنيد نظرية ذروة النفط التي تم الترويج لها آنذاك ـ ربما تأتي، لكنها لم تحدث بعد. تم اكتشاف إمدادات جديدة، وعملت التكنولوجيا الجديدة على استغلال الزيت الصخري، وتدفقت الاستثمارات إلى البدائل وتراجعت أسعار النفط 80 في المائة عن المستويات المرتفعة التي وصلت إليها عام 2008.

يجدر التعامل مع “ذروة النفط” في 2008 وكأنها حكاية تحذيرية. فمنذ ذلك الحين انخفض النفط بشكل كبير، لكنه يصل الآن تقريبا إلى المستوى الذي وصل إليه في بداية العام الماضي. ولأن كثيرين جدا اقترضوا كثيرا استنادا إلى فرضية أسعار النفط المرتفعة، يبقى الخوف شديدا.

جاءت فترة الإغماء في عام 2014 عقب فترة تجاوز فيها العرض الطلب. هل كان هذا تعديلا لمرة واحدة؟ أم هل هناك من سبب لنتوقع استمرار انخفاض الطلب، أو استمرار ارتفاع العرض، وبقاء الأسعار منخفضة؟

مُنِح المستثمرون روايتين منفصلتين للإشارة إلى أن الأسعار ستبقى منخفضة، على الأقل في الولايات المتحدة.

الرواية الأولى تركز على التكنولوجيا. أشارت إيمي مايرز جاف، من جامعة كاليفورنيا في ديفيز، إلى أن “ثورة التكنولوجيا” من شأنها فصل الاقتران بين استخدام الطاقة والنمو الاقتصادي. لم تعد شركات النفط الكبرى هي المسيطرة ولم يعد بإمكان الطلب الصيني أن يكون موثوقا ويمكن الاعتماد عليه. وتدعو اتفاقيات المناخ المبرمة في باريس، المدعومة من التكنولوجيا التي ستلعب دورا في تحقيقها وإنجازها، إلى التشكيك في فكرة الطلب المتزايد إلى ما لا نهاية. الآن أضف بعضا من نظرية اللعبة، بالتركيز على “المقاعد الموسيقية المعكوسة”: عندما تتوقف الموسيقى، يضيف أحدهم مقعدا. يمكن للدول المنتجة للنفط رؤية مستقبل الطلب. وأسوأ نتيجة لديها قد تكون امتلاك أصول لا قيمة لها و”عالقة” تحت الأرض. لذلك، مع كل مؤشر جديد يتعلق بانخفاض الطلب، سيكون هناك حافز للموردين لضخ المزيد وتحويل مواردهم إلى أموال كلما سنحت الفرصة. يمكن للعرض المتزايد الانضمام للطلب الآخذ في الانخفاض – وهذا أمر عظيم بالنسبة إلى مستوردي النفط.

الرواية الأخرى، المتعلقة بالجيوسياسة، جاءت من المختص الاستراتيجي في الجيوسياسة والدبلوماسي السابق بيتر زيهان، الذي يشير إلى أن النفط سيتوقف عن كونه سوقا عالمية. حققت الولايات المتحدة اكتفاء ذاتيا في النفط، ما يعني أنه لا يلزم أن تُجرجَر إلى الصراع المقبل في المناطق المنتجة للنفط. وتوافُر الزيت الصخري سيضع حدا أعلى لأسعار النفط، لا يزيد كثيرا على مستواها الحالي.

في أماكن أخرى، سيعمل هذا على إثارة نزاعات وستنمو الإمدادات بطريقة غير منتظمة، ما يؤدي إلى حدوث ارتفاعات في الأسعار. ومن دون تدخل الولايات المتحدة لإيقاف ارتفاع الأسعار، يمكن أن يشهد بقية العالم مزيدا من النفط الأكثر تكلفة.

أصداء ذلك يمكن أن تكون عالمية. أشار زيهان إلى أن كلا من الصين واليابان وتايوان وكوريا الجنوبية، التي تعتمد جميعا على الواردات النفطية، بعيدة جغرافيا عن أي من حقول النفط. وهي تخاطر بالانجرار إلى صراع فيما بينها، في الوقت الذي تتنافس فيه لإرسال القوات البحرية لمرافقة ناقلات النفط حتى تصل إلى وجهتها. هاتان الروايتان تستحقان أن تؤخذا مأخذ الجد. المستثمرون، والجميع، يجدر بهم مراقبة الأحداث، وإلى أن يكون هناك دليل واضح على دحض هاتين الروايتين، فلا يرجح لأسعار النفط أن ترتفع أكثر من ذلك بكثير. لكن تذكروا ذروة النفط في 2008 – لمجرد أننا أُصبنا بصدمة الأسعار الهابطة في الآونة الأخيرة، فإن هذا لا يعني أنه يجدر بنا أن نتبنى نظريات تفيد بأن الأسعار ستظل منخفضة إلى الأبد.

FINANCIAL TIMES

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى