السياسة الأميركية.. من سوء تقدير إلى سوء تقدير

يوما بعد يوم، نزداد اقتناعا أن دولنا العربية صارت ضحايا لسلسلة من القرارات الأميركية التي استندت إلى تقديرات سيئة أو خاطئة. خرج علينا الأسبوع الماضي السيد جيمس كلابر، المسؤول لمرحلة غير قصيرة عن أجهزة الاستخبارات الأميركية، ليعترف بأن الحكومة الأميركية أساءت تقدير تطورات الأمور في سوريا خلال الحرب التي نشبت فيها، فنفذت، أو امتنعت عن تنفيذ، سياسات بنتيجة مؤداها أن أصبحت سوريا قاعدة انطلاق للجهاديين في العالم.
[[[
أخطأت الحكومة الأميركية أيضا في تقدير القوة الواقعية لقوى الأمن في العراق. هذا الخطأ تسبب في الكارثة العظمى التي حلت بالمشرق وتهدد بالانتشار في الشرق الأوسط بأسره. صعب على شخص مثلي غير مؤهل عسكرياً للحكم على قدرة جيش عربي كجيش العراق، أو غيره، على التصدي لتمرد محدود، خاصة بعد أن قضت الولايات المتحدة سنوات عديدة تشكل هذا الجيش من لا شيء وتدربه وتسلحه بأحدث الأسلحة وتعدّه ليحل محل قوات التحالف في حفظ الأمن وحماية حدود الدولة.
يصعب على أمثالنا الذين يطالبون بقواعد ونصوص دستورية تضمن حق الشعوب العربية في محاسبة حكوماتها حين تخطئ أو تمعن في إنكار الخطأ، أن نفهم أو نتفهم هذه الدرجة من اللامبالاة لدى الرأي العام الأميركي وتقاعسه عن الدعوة لمحاسبة المسؤولين عن الأخطاء التي ارتكبتها الحكومتان الأميركيتان السابقة والراهنة. معروف أن الشعب الأميركي لديه من الحقوق والقوانين والممارسة الديموقراطية ما يجعله الأكثر تأهيلا من كثير من شعوب العالم لمحاسبة المسؤولين ومنع تكرار الأخطاء ووقف تبديد أموال دافعي الضرائب على مغامرات حربية وممارسات امبريالية جوفاء في الخارج. هذه اللامبالاة تضاف إلى قائمة المتاعب التي تواجه الرأي العام العربي. إذ لم تعد حكومات العرب الحليفة مستعدة كالعهد بها دائما للدفاع عن السياسات الأميركية، خاصة بعد أن فقدت أميركا نفسها القدرة على التصدي لهذه الاتهامات بالإقناع والدعاية والضغوط .
أعرف أنه توجد صعوبة شديدة في إقناع قطاعات مهمة في الشعوب العربية بالاطمئنان إلى خطة أوباما لمحاربة الإرهاب، وأستطيع أن أتفهم أسباب عدم الاطمئنان. سوريون كثيرون يسألون عن الحكمة في القرار الأميركي بممارسة التثاقل في التعامل مع الحالة في سوريا. لا يكفي لإقناع هؤلاء السوريين القول بأن الوضع في ساحات القتال كان شديد التعقيد، وأن الدعم الروسي للأسد جمد الحركة الأميركية، وأن بعض التنظيمات المناهضة للأسد كانت تبيت على ولاء لدولة وتستيقظ على ولاء لدولة أخرى، أو كانت معتدلة بالنهار ومتشددة بالليل. كثير من السوريين يعتقدون أن أميركا وروسيا تتحملان مسؤولية التدهور في سوريا لأنهما كانتا تعلمان بوجود تنظيمات إرهابية، ووجود «داعش» بالذات، ولم يقوما بالضغط على تركيا والعراق والأردن ولبنان وغيرها لوقف تسرب الإرهابيين والسلاح من خارج سوريا. هما أيضا مسؤولتان لأنهما احتكرتا في جنيف حق التفاوض باسم المجتمع الدولي. لا يفهم السوريون ولن يفهم غيرهم من العرب حجج أميركا، ولن يقبلوا منها الاعتذار بسوء التقدير. الكل يفهم أن أميركا ادعت ثم احتكرت حق القيادة الدولية وحق تشكيل الأحلاف وحق حماية الأمن العالمي، وبالتالي فهي تتحمل المسؤولية منفردة، أو مع حلفائها الذين قبلوا طواعية السير في ركابها. هؤلاء الحلفاء لم يفعلوا ما كان يجب أن يفعلوه وهو تنبيه القادة في واشنطن من خلال مؤتمرات العشرين أو «الأطلسي»، إلى مغبة الاستمرار في سوء التقدير وارتكاب الأخطاء.
[[[
أخشى أن يوما يأتي فنسمع أميركياً كبيراً يلقي على سوء تقدير حكومة أوباما مسؤولية إشراك دول عربية في حلف عسكري، بينما أغلب المؤشرات تشير إلى عدم وجود نية أو إرادة قتال لدى معظم هذه الدول. بل تشير أيضا إلى نية مبيتة لدى العسكريين الأميركيين بعدم التورط في حرب برية في أي صراع قادم، والعودة إلى الاعتماد على “مرتزقة” أو متطوعين أو “تنظيمات” تجند أعضاءها وتمولها سراً أو علنا الدول العربية المشتركة في الحلف. من سيحاسب من على مقاتلين تدربهم أميركا على قتال أصحاب فكر متشدد ومناوئ ويعودون بعد القتال عودة “الأفغان العرب” إلى أوطانهم. لم نسمع أو نقرأ عن ضمانات بعدم تكرار الكوارث الناجمة عن حرب المتشددين ضد متشددين، وحروب التطرف الديني ضد التطرف الديني.
[[[
أتصور أن شعبية الرئيس أوباما في العالم العربي تدنت إلى أسوأ درجاتها، خاصة لدى جيل الشباب. الحقوقيون العرب، كغيرهم من الحقوقيين في روسيا والصين ودول متزايدة العدد، يتعرضون لمعاملة سيئة من جانب حكوماتهم، بينما تقف الولايات المتحدة عاجزة عن الاستمرار في ممارسة الضغوط المعتادة، والأسباب معروفة أهمها النقص في صدقية القدرة الأميركية على تنفيذ هذه الضغوط.
من ناحية أخرى، يسخر قادة شباب وناشطون في المجتمعات المدنية العربية من “تمجيد” الرئيس أوباما للمجتمع المدني العربي، بينما هو يتوسل إلى الحكومات العربية التي تضطهد هذا المجتمع المدني للانضمام إلى الحلف المناهض للإرهاب. يعتقدون أن البديل الوحيد للإرهاب هو المجتمع المدني، فإذا غاب المجتمع المدني فلا بديل للإرهاب في نظر العدد المتزايد من الشبان العرب المحبطين سوى حكومات متسلطة وأساليب قهر وقمع. ومع ذلك، راح عدد محدود من الحقوقيين يطالب أوباما بانتهاز فرصة سعيه لإقامة حلف مناهض للإرهاب ليطالب الدول العربية التي قرر اختيارها أو التوسل إليها للانضمام إلى الحلف احترام حقوق الإنسان وضمان حريات المواطنين.
[[[
سمعت أيضا من اتهم أوباما بالنفاق عندما تحدث في خطاب له عن حقوق الإنسان والحريات في العالم العربي وهو يعلم أن دوائر الحكم في عدد من الدول العربية المرشحة كحلفاء، تحمل أفكارا شبيهة إن لم تكن مطابقة للأفكار التي تتبناها التنظيمات الإرهابية. أسمع أيضا عن حوارات جادة في عديد الدول العربية تحاول استقراء الوسائل التي يمكن أن يستخدمها أوباما أو من يأتي بعده لإقناع الحكومات العربية بواجب التخلص من النافذين المتشددين في هذه الدوائر، وكذلك شن الحرب ضد الفكر المتطرف كما جاء في وثيقة أوباما عن الحرب ضد الإرهاب. هل سيتمكن أوباما من تحقيق هذا أم أن الأمر لا يخرج في حقيقته عن “تظاهرة” بالكلام فقط لاستدراج أميركا للنزول من الجو والبحر إلى الأرض وممارسة القتال برجالها ونسائها وقوات رمزية من الأطلسي.
[[[
وسط هذا الاضطراب العميق في التداول حول مسيرة الحرب ضد الإرهاب كما تصورتها واشنطن، يتضح يوما بعد يوم، أن نظام الأسد عاد يحتل الوضع الأفضل في استراتيجيات الحرب السورية، فالأميركيون يحاربون له اعداءه، وجدران العزل والحصار تتحطم جدارا بعد الآخر، وخصومه من العرب فقدوا حرية التصرف التي اشعلوا بها حرب التنظيمات الجهادية، فضلا عن اقتناع متزايد لدى عواصم عديدة بأهمية بل ضرورة المحافظة على وحدة الكيان السوري. ومع ذلك أتصور صعوبة أن يعود النظام في سوريا إلى سابق احتكاره للسلطة وانفراده بالحكم، سواء تطورت أمور سوريا إلى الأسوأ أم الأفضل.
[[[
من سوء التقدير أيضا استمرار الحكومة في واشنطن في توجيه الإهانة للعرب وتعميقها كلما حانت فرصة لذلك. لقد كان رد الفعل الأميركي المبالغ فيه على خطاب محمود عباس في الجمعية العامة، دليلا إضافيا على أن هناك في أميركا، كما في عالمنا العربي، من يظن أن فلسطين صارت تنتمي إلى عصر انقضى ولن يعود. صحيح أن الرأي العام العربي منتبه إلى حدود قصوى لأوضاع الحريات والانقسامات والشؤون الجهادية والإرهابية، ولكن الصحيح أيضا أن فلسطين حية في العقل العربي، ويخطئ في واشنطن أو غيرها من يخطط لسياسة في الشرق الأوسط لا تعتمد مبدأ عودة فلسطين إلى أصحابها، أو تفترض “نهاية العرب”.
صحيفة «الشروق» المصرية