السياسة كسؤال للفن (عباس بيضون)
عباس بيضون
يكون الفن أو الأدب محظوظين إذا أمكن لهما أن يتقاطعا مع الظرف السياسي، بدون أن يكون ذلك على حساب أدبيتهما أو فنيتهما، وبدون أن يكون ذلك تنازلاً مقصوداً وداعيا للظرف والجمهور، عندئذ تكون السياسة أكثر من استثمار ظرفي. تكون السياسة عندئذ رعفاً إنسانياً ومأسوياً مأسوية المصير الإنساني وتكون السياسة عندئذ بمثابة سؤال المصير والقدر، وتكون بذلك تلميحاً إلى المعضلة الإنسانية، معضلة الخيار المسدود والحرية القاتلة. لا بد أن جانباً كبيراً من الفن عثر بالسياسة مثلما عثر على سؤاله وعثر على باعثه وعثر على موضوعه وعثر على إشكاليته. ذلك يعني أن الأدب والفن عند ذلك يصادف السياسة على أرضه هو ولا يصادفها على أرضها هي. يحولها إلى سؤاله هو بدون أن يتحول إلى سؤالها. يدمجها في لعبته وفي معادلته بدون أن يندمج هو في لعبتها وفي معادلتها. الأدب والفن قد يجدان في السياسة موضوعاً للسخرية منها والتهكم عليها، عندئذ يتقاطع الفن مع السياسة على طريقه هو لا على طريقها. انه يفضحها ويفضح آلياتها وأدواتها ومسرحها وعروضها ومبالغاتها وادعاءاتها وتناقضاتها. في هذا الفضح يكون الفن والأدب داخل السياسة بقدر ما هما ضدها، لا بد عندئذ من أن السياسة تتعرى وتكشف عن حقيقتها الدامسة، وتكون هذه تعرية للواقع نفسه، بل نوعاً من واقعية متهكمة نقدية.
يمكن للأدب أو الفن أن يصادف السياسة كقدر إنساني، كمسار مأسوي، كمسار من السقوط والتهافت، كمعركة لا مجدية مع القدر والعبث والمصير. يمكننا في هذه الحال أن نتذكر دانتي الذي ضمّن في الكوميديا الإلهية جانباً من التاريخ الإيطالي. يمكننا أن نفكر بشكسبير الذي صادف السياسة في مسرحياته وفي كل مرة كان يقع على جوهرها المأسوي. هكذا نجد في مكبث خاصة عطش السياسة الذي لا يروى والذي يختنق به صاحبه وباختناقه به يظهر عبث السعي إلى السلطة، عبث السياسة نفسها. في هاملت هناك جشع السلطة ولكن هناك أيضاً النهايات المأسوية لهذا الجشع وعبثه الجوهري، ليست الملك لير» شيئاً آخر وبالطبع «ريتشارد الثالث» الذي صاح في نهاية حياته «مملكتي مقابل حصان» مبيناً السعر الحقيقي للسلطة. لا تغيب مسألة السلطة عن المسرح الشكسبيري لكنها لا تبدو بحال مسقطة عليها، كما لا تبدو مجلوبة لمراعاة الملك او مراعاة الجمهور، انها العمود الفقري للمسرحية وموضوعها الرئيسي وباعثها الفكري والعاطفي ومصدر خيالها. لقد كانت كذلك بقوة الفن نفسه.
لا نستطيع أن نتخيل الا «أن الفن الشكسبيري عثر على السياسة في صلبه. لقد وجدها ماثلة بمجرد أن بدأ، رآها فوراً أمام عينيه. رآها منذ فكر بالإنسان وبالقدر الإنساني وبالسؤال الوجودي، رآها لا جزءاً من الاشكال الإنساني فحسب ولكن في أحيان كثيرة نموذجه وتشخيصه. لا يمكن لأحد أن يدعي ان شكسبير في أعماله هذه التي تظهر فيها السياسة كسطح للعبث وكسطح للخيار الإنساني كان مدفوعاً، وانه كتبها ابتغاء جائزة، وانه مارس فيها الدعاوة لأحد، أو أنه تقرب فيها من جمهور ما. يمكننا أن نجد في ما نسميه «الأدب السياسي» كثيراً من ذلك، بل يمكننا أن نقول ان الأدب السياسي الفاشي أو الأدب السياسي الواقعي الاشتراكي ألقيا على الأدب تبعات من هذا النوع. لقد اعتبرا الأدب والفن مهندسي النفوس البشرية، فرضاً عليهما أن يتطلع باستمرار إلى المستقبل الخيالي وبتفاؤل وبدعاوه للسلطة التي تزعم انها تقوم على المشروع المستقبلي. وبالطبع بإيجابية ترصد ما تعتبره الدعاوة إيجابياً ومثمراً لدى الفرد والجماعات، أي بكلمة واحدة كان الأدب الفاشي ومثله الواقعي الاشتراكي يدعوان الأدب بدلاً من أن يكون صرخة، بدلاً من أن يكون احتجاجاً ومجابهة للقدر والعبث الإنسانيين. يدعوانه إلى أن يكون تزويراً وأكذوبة وتمويها وتملقاً ووعظاً وتوجيهاً. لا نستطيع أمام هذا الأدب وذلك الفن إلا أن نقول ان الأدب والفن يتحولان هنا إلى اللعبة السياسية. انهما مثل الخطابة السياسية ومثل الدعاوة ومثل التكتيك السياسي ومثل التعبئة ومثل التثقيف الحزبي ومثل المناشير والتظاهرات. مثل كل ذلك يتحول الأدب إلى أداة من أدوات السياسة التي طالما كانت فاجرة وطالما كانت مدعية وكاذبة وطالما كانت احتيالاً وخداعاً ومراوغة. الأدب والفن عندئذ لا يعريان السياسة ولا يكشفان جوهرها المأسوي، لكنهما يتحولان إلى واحد من أقنعة السياسة وإلى واحدة من أكاذيبها وأحابيلها وأكاذيبها ووعودها الزائفة. ألسنا نجد في الأدب العربي مثلاً على هذا التقاطع الخصب بين السياسة والأدب. نجد الأمرين، التمثل الخصب للسياسة في الأدب، والأدب التعبوي السياسي، يمكننا أن نفكر حين يخطر شكسبير بالمتنبي. هنا نجد السياسة مسألة جوهرية ونجد السياسة معراة معروضة لسخرية تصل إلى حد الحقد. نجد أيضاً جوهرها المأسوي، نجد أيضا السلطة كحلم وأسطورة، فالمتنبي في عصر الثورات وعصر الانقلابات السياسية نظر إلى السلطة أحياناً كأكذوبة وأحياناً أخرى كحلم. في الحالين لم يكن المتنبي مطية للسياسة، لقد حولها إلى عنصر جوهري في المعادلة الإنسانية والمعادلة الكونية، كانت في ذلك الوقت مسخرة ومثالاً. بين المسخرة والمثال كانت حياة المتنبي كلها مثلا على عبثها وفجورها، لا نستطيع ان نقول في ابن المقفع الا انه كان شهيد السياسة، انه المثقف الذي حسب في «رسالة الصحابة» انه مفوض لإصلاح السلطة. ليس كليلة ودمنة الذي يضم فيما يضم ملكاً ووزيراً ورعية الا مثال الدولة كما رآها ابن المقفع. مثال لم يراع فيه أحداً ولم يراوغ فيه أحداً ولم يتقرب فيه من أحد. لقد لامس الخطر بدون أن يرتدع. ألقى نفسه في الخطر وأكله الخطر.
صحيفة السفير اللبنانية