تاريخ

السيرة الذاتيّة لأمين الجميّل: عندما يصبح الارتهان للخارج «مقاومة» [11]

 لا يزال الحديثُ هنا عن سيرة أمين الجميّل الذاتيّة والتي صدرت حديثاً بعنوان «الرئاسة المُقاوِمة: مذكّرات». وبوقاحة شديدة، يروِّج الجميّل (المقاوِم بسحب وصفه) لفكرة أن حركة المقاومة اللبنانيّة ضد الاحتلال الإسرائيلي في الجنوب لم تكن عفويّة أو شعبيّة أو وطنيّة (ص. ٢٤٥). نزع رئيس الحزب الذي تلقّى التمويل والتسليح من العدوّ صفة الوطنيّة عن مقاومة إسرائيل وأسبغها على ميليشيات إسرائيل في لبنان. ليست المقاومة ضد إسرائيل إلا أداة للنظام السوري، حسب الجميّل.

كل الذين استشهدوا في قتال إسرائيل حرمهم الجميّل من وطنهم واعتبرهم مجرّد بيادق سوريّة. ويتحدّث الجميّل عن حملة حركة «أمل» ضد «المرابطون» في نيسان ١٩٨٥ والتي ترافقت مع حملة من القوى الموالية لسوريا، وفي طليعتها حركة «أمل»، ضد المخيّمات الفلسطينيّة في لبنان، كأنها لم تعانِ بما فيه الكفاية—وكأن الحركة أرادت أن تثبت أن الحرب على المخيّمات الفلسطينيّة في لبنان ليست حكراً على طرف واحد أو طائفة واحدة. ويتحدّث الجميّل، ممثّل الحزب الذي أجّج طائفيّاً في كل تاريخه والذي لم يجد ما يضعه في موقع الصدارة السياسيّة إلا التحريض الطائفي الصارخ، عن الأبعاد المذهبيّة لحرب «أمل» ضد «المرابطون» ويقول إنه في مكالمة هاتفيّة مع حافظ الأسد حذّره من ذلك إلا أن الأسد قال له: «لا داعي للتخوّف. الموضوع مضبوط تماماً» (ص. ٢٤٦). وهذه الحرب التي شنّتها «أمل» بالنيابة عن النظام السوري مهّدت الطريق لظهور زعامة رفيق الحريري، كأنه—مع رعاته—أرادوا تخليص بيروت من المنافسة قبل إطلالته السياسيّة المشؤومة. ويُشدّد الجميّل على الطابع المذهبي لحرب المخيّمات—ربما لأنه ينتمي إلى حزب متخصّص في التحريض الطائفي والمذهبي—لكنه يغفل أن الأمور لم تكن على هذه الصورة من الصفاء الطائفي الخالص الذي يصوّره في تلك الحرب. إذ وقف محمد حسين فضل الله ضد حرب المخيّمات وكان هناك انقسام بين جماهير الشيعة (أذكر وصفاً سمعتُه من فضل الله عندما قال إن الأخ وقف ضدّ أخيه في تلك الحرب)، وقد ساعد حزب الله المخيّمات في تلك الحرب ولم يؤيّد «أمل».

وينقل الجميّل عن السفير اللبناني في السعوديّة آنذاك، ظافر الحسن، قلق النظام السعودي من تسليح النظام السوري لـ»حركة «أمل» والشيعة»، ويضيف «وقد وجّه إليه المسؤولون السعوديّون أسئلة كثيرة عن الوضع العسكري في بيروت والمخيّمات الفلسطينيّة» (ص. ٢٥٦). من المشكوك فيه أن يكون النظام السعودي قد عبّر آنذاك عن قلقه من الاحتلال الإسرائيلي في أرجاء لبنان. ويتحدّث الجميّل بلهجة أسى مصطنعة عن انهيار المؤسسات والجيش و»القيم» (أي قيم؟ قيم حزب الكتائب، والتي صدّها انطلاق حركة مقاومة ضد إسرئيل وأعوانها في لبنان؟) (ص. ٢٥٦) كأنه ليس هو الذي أسهم بشكل مباشرة في انهيار مؤسّسات كانت أفضل حالاً عندما تسلّمها. كان هناك أمل شعبي (مغلوط) في دور للجيش—بالرغم من طائفيّته وفئويّته وانحيازه—لكن الجميّل سرعان ما بدّدَ سمعة هذا الجيش (لحسن الحظ) بعد أن تولّى مهمات قذرة كان جيش الاحتلال الإسرائيلي قد كلّفه بها. ويتحسّر كيف أن «نجاحاته البسيطة» (أي نجاحات؟) تتبدّد بنكسات جديدة ثم يُتحف القارئ بعبارة يزعم أنه اجترحها—بعد استئذان ديكارت—ألا وهي «أنا أقاوم، إذاً أنا موجود» (ص. ٢٥٦). لا يذكر الجميّل أن العبارة التي ينسبها إلى نفسه هي لمناحيم بيغن، وقد يكون قادة الكتائب قد سمعوها منه شخصيّاً.

وعلى طريقة غسان تويني المُنفِّرة، يتحدّث الجميّل عن حرب مفروضة على لبنان، وكأن اللبنانيّين ليسوا صانعيها، وكأن حزب الكتائب بالتحديد لم يكن الحزب الذي أشعل الحرب بعد أن كان يؤجّج لها على مدى سنوات، وكأنّ الحزب وحلفاءه لم يضمنوا استمرار الحرب بعد عقد تحالفهم المبكر مع العدوّ الإسرائيلي. لكن نفي الصراع اللبناني الداخلي—بالرغم من كثرة وتعدّد التدخلات الخارجيّة—يهدف إلى جعل فريقٍ واحد لبنانياً. أما الآخرون، فهم طارئون وغرباء وطفيليّون. ولهذا لا يجد أتباع وورثة الكتائب (من كل الطوائف اللبنانيّة) اليوم من غضاضة في تصوير وجود أكبر حزب لبناني على أنه احتلال خارجي. أي أن الهدف هو طرد هؤلاء اللبنانيّين من لبنان من أجل إتاحة الفرصة أمام الشعب اللبناني للعيش بهناء وصفاء (طائفي).

وأما تقارب إيلي حبيقة مع النظام السوري فهو نغّص على الجميّل مساره لأن ذلك نزع منه القدرة على التفاوض باسم المسيحيّين مع النظام السوري، ويذكّر الجميّل بأن الخيار السوري لحبيقة حظي في البداية بدعم سمير جعجع الذي كان رئيس أركان القوّات فيما كان حبيقة رئيساً للهيئة التنفيذيّة. لكن ملابسات وظروف التفاتة حبيقة—الذي كان ربيب جيش الاحتلال والـ»موساد» الإسرائيلي—نحو النظام السوري ورعايته المبكرة (وتمويله) من قبل رفيق الحريري لم تتوضّح كليّاً بعد. كيف تم اللقاء بين الحريري وحبيقة فيما كان الأخير هو الخيار الموسادي الأوّل في لبنان؟ وكيف قبل النظام السوري برعاية حبيقة وعلى أي أساس؟ ولماذا لم يطلب النظام السوري من حبيقة تلاوة فعل الندامة على تحالفه مع إسرائيل (طبعاً، تلاوة الفعل لا تكفي أبداً) أو الإفصاح عن كل ما يعلمه عن إسرائيل ودورها في لبنان؟ هذا كان الرابط الأساسي بين العدوّ الإسرائيلي وأخبث أجهزته وبين الميليشيات العاملة في المنطقة الشرقيّة من بيروت. كيف تم التوافق بين الحريري وحافظ الأسد على إسباغ صفة الوطنيّة على إيلي حبيقة بمجرّد أن استدار نحو دمشق (وهل حافظ حبيقة على علاقات سريّة مع تل أبيب، مثل الكثير من قادة الميليشيات الانعزاليّة، وهل لذلك علاقة بقتله في ما بعد؟). وتقارب حبيقة أيضاً مع جنبلاط وبرّي في تمهيد لإطلاق «الاتفاق الثلاثي». ويقول الجميّل إن حبيقة حافظ على اتصالاته بإسرائيل «بواسطة متعاملين مقيمين في الخارج» (ص. ٢٥٧). وكان وليد جنبلاط، على عادته في العمل السياسي، يلعب على أكثر من حبل: يوالي النظام السوري وينفّذ أوامره بصرامة فيما يحافظ على علاقة سريّة مع أعداء النظام السوري ومع أعداء الجبهة السياسية التي ينتمي إليها (في سنوات الحركة الوطنيّة وبعدها). وهو كان يطلق وصف سوموزا على الجميّل فيما كان يتواصل سرّاً عبر مندوبين من الجميّل ويقدّم الدعم والتفضيل له. وكان جنبلاط يحثّ الجميّل على التعامل مع حسين الحسيني في مواجهة نبيه برّي الذي حذّر الجميّل منه ومن طموحه وقال للجميل: «أريدكم ان تعلموا أن حلف بري مع السوريّين قويّ جداً، وهو أقوى من حلفي معهم… الطموحات الدينيّة للشيعة قد تجعل لبنان إيران أخرى. إذا صارت الرئاسة لشيعيّ، يصبح لبنان من دون شك خمينيّاً، وهذه هي الكارثة… أملي أن يحافظ (الجميّل) على أعصابه، ولا يعطي السوريّين أكثر مما يريدون» (من تقرير إيلي سالم عن لقائه بجنبلاط حسب الجميّل). لكن يمكن ترجيح صحّة تقرير سالم عن جنبلاط. هذا هو جنبلاط على حقيقته: يذمّ السعوديّة مع سوريا ويذم سوريا مع السعوديّة، ويذمّ الموارنة مع الشيعة ويذمّ الشيعة مع الموارنة، الخ. ولم يكن جنبلاط وحده لاعباً على الحبال، فهو ينقل أن فرنجيّة كان ينتقده أمام مبعوثه، جوزيف الهاشم، ثم ينتحي به جانباً بعد الزيارة ليقول له: «قل للرئيس الجميّل أن ينتبه إلى أمنه جيّداً بين ١٠ شباط و١٥ منه». وعن الاتفاق الثلاثي الذي عمل النظام السوري كثيراً لفرضه، يقول إن فرنجيّة حذّره منه وقال: «إيّاك أن تقبل به، ونحن معك». لكن فرنجيّة، حسب الجميّل، هو نفسه الذي كان قال عن الجميّل: «إذا غيّر سياساته تقتله إسرائيل، وإذا لم يغيّرها أقتله أنا». ويقول الجميّل إن طبيعة العلاقة بين الجميّل وبين حافظ الأسد كانت طائفيّة وإن فرنجيّة قال: «العلويّون يحبّون المسيحيّين» (ص. ٢٧٥). ويعترف الجميّل بأن الأقوال تناقضت بين السرّ والعلن، لكنه لا يشمل نفسه في التعميم كأن طينة الجميّل من غير طينة منافقي السياسة في لبنان.

وكم أن الجميّل يزهو بأصدقائه في الغرب (ولعلّ تعريف الصداقة عند الجميّل لا يختلف عن تعريف وليد جنبلاط—الصديق الحميم لجو بايدن، بناءً على لقاءَيْن أو ثلاثة) ويذكر بصورة خاصّة الزعيم الألماني اليميني الرجعيّ، فرانز جوزف شتراوس (والذي تورّط في فضيحة فساد شهيرة مع شركة «لوكهيد» للسلاح). وعندما كان الجميّل يشعر بالضيق، كان يلجأ إلى صديقه شتراوس. وشتراوس هذا كان من أشرس حلفاء إسرائيل في أوروبا وهو الذي كان يتبجّح أنه لا يستطيع الإفصاح عن الخدمات (العسكريّة) التي قدّمها لإسرائيل سرّاً. لكن الجميل ارتاح لمعشره. واليمين الغربي الصهيوني الإسلاموفوبيي كان دائماً خير عون للجميّل: لم يتفهّم الجميل بين كل مسؤولي أميركا إلا دونالد رامسفيلد، مثلاً.

ويقول الجميّل عن لقائه مع مارغريت ثاتشر إن إيلي سالم همس في أذنه أن ثاتشر هي «الرجل الوحيد في الحكومة». التعليقات العنصريّة الذكوريّة لا تزال تثير الضحك في لبنان. وينقل من محضر اللقاء ويقول إنه طلب عون لبنان على ضرب «المتطرّفين» الإرهابيّين. حتماً كان يتكلّم عن معارضيه وعن مقاومة إسرائيل. ويجب على الشعب اللبناني أن يعلم أن جاك شيراك (السريع التأثّر بالمال اللبناني الوفير، وبناءً على «صديق»—ليس مُموّل—شيراك، عصام فارس) خصَّ الجميل—حسب الجميّل—باستقبال حار وأقام على شرفه «عشاء كبيراً في قاعة الكي دورسيه «،ص. ٢٨١). أعطوه سلاماً وخذوا منه عشاءً كبيراً.

ولا يتورّع الجميّل من نقل نميمة ضد سليم الحصّ من السفير الأميركي في لبنان، جون كيلي. بقي أن ننتظر رأي سفراء الغرب في واحد من أنزه من مرَّ على المناصب العليا في الدولة، وأكثرهم وطنيّة على الإطلاق. ويعتبر الجميّل أن ما يقوله كيلي عن الحصّ هو بمثابة النص الديني الذي لا يمكن التشكيك فيه (ص. ٣٠٠). ويقول السفير النمّام، كيلي: «لقد أثبتت الأحداث أنني على حقّ في التقارير التي كنتُ أرسلها عن مواقفه (أي الحص)». وينقل الجميّل هذا الكلام لأنه يعتبر أن الحكم الفصل في وطنيّة اللبنانيّين لا يمكن أن يصدر إلا عن سفير أميركي. ويضيف كيلي أن حسيني الحسيني «يتكلّم في سوريا بلغة غير تلك التي يتكلّم بها معنا». لكن بالرغم من كل شيء، فإن الجميل يبقى ممتناً للتدخل الأميركي في شؤون لبنان، إذ يقول: «كانوا يبذلون أقصى جهدهم من دون أن يكونوا مضطرين إلى ذلك. أدّت اميركا دور المسعف.»(ص. ٣٠٠). يخلط الجميّل هنا بين الصليب الأحمر الدولي (على علّاته) وبين الإمبراطوريّة الأميركيّة في تدخّلها في شؤون الدول.

ثم يروي الجميّل عن لقائه مع مستشار ميتران لشؤون المشرق، فرانسوا دو غروسوفر، ويقول إنه صاحَ بأمين: «إنه مريض (عن ميتران)، يا أمين. إنه مريض»، ثم انتحر دو غروسوفر من دون أن نكون واثقين من مقصد الجميّل في الرواية، إذا كان يوحي إلى أن الانتحار كان بسبب الانتقام من أعداء الجميّل حول العالم. وغروسوفر هو صديق للجميّل، وقد لا يكون هناك مسؤول غربي اجتمع بالجميّل من دون أن يصبح صديقه—تماماً على طريقة جنبلاط في مراكمة أصدقاء غربيّين (بيض، طبعاً). ثم هل يعلم شعب لبنان «أن الحملة الانتخبابيّة التي كانت في عزّها في فرنسا لم تمنع أبرز المرشحين من تخصيص الوقت اللازم لي»—أي للجميّل؟ ألا يثبت هذا أن أرزات لبنان ما زالت «عاجقة» الكون؟

وفي آخر يوم في الرئاسة، تجاوز أمين الجميّل «قواعد البروتوكول» وطفق يبادل العاملين والعاملات في القصر القبلات والعناق والمجاملات والشمّ والضمّ—كان ذلك قبل زمن الكورونا طبعاً. وغادر الجميّل القصر الجمهوري وقاد سيّارته بنفسه إلى منزله الخاص—تدليلاً على تواضع الرجل والتصاقه بالجماهير، على أنواعها. وما إن غادر الجميّل القصر، حتى استمرّ نمط ما تعرّض له الجميّل من قبل: طعنات من الخلف من قبل حلفاء وأعداء على حد سواء. عقدة مظلوميّة الجميّل لا تنتهي. كلهم ظالمون ومجحفون. جعجع وعون انقلبا عليه، ولم يبقَ في صفّه أحد، حتى حزبه غادره. وتعرّضت مواقع و»مؤسّسات» (مثل سوبر ماركت في انطلياس تابعة للجميّل) إلى هجوم من قبل قوّات سمير جعجع وتم استهداف «بيت المستقبل» وهو مركز أبحاث أنشأه الجميّل في سنوات الحرب معتمداً على تبرّعات المحسنين من الأطراف الخارجيّة التي لا تشكّل خطراً على سيادة لبنان بحسب تعريف حزب الكتائب اللبنانيّة. والمهم أن مدوّنات الجميّل الشخصيّة، والتي ساعدته كثيراً في سرد هذا الكتاب الذي أثقلني كما أثقل القراء، كانت معرّضة لخطر السرقة أو التلف من قبل القوّات لكن الجميّل استعان بمخلصين له كي يهرّبوا أوراقه الشخصيّة، ما سمح لنا بمطالعة هذا الكتاب. أما عن مغادرة الجميّل للبنان، فإنه يقصّ علينا حكاية تختلف عن تلك الحكاية التي قصّها علينا عندما كان زعيماً في حركة ١٤ آذار. آنذاك، كانت القصّة التي تكرّرت أن الجميّل اضطرّ للمغادرة بسبب تهديد تعرّض له من النظام السوري بسبب معارضته الشجاعة للسيطرة السوريّة في لبنان. هنا، في الكتاب، نقرأ رواية أخرى ومفادها أن سمير جعجع هدّده بالأذى الشخصي ونقل هذا التهديد له كريم بقرادوني. أوضح له جعجع (الذي تعمّق في دراسة الفلسفة واللاهوت في سجنه على ما يُقال لنا) أن المناطق الشرقيّة لا تحتمل زعيميْن. وعندما لاذ الجميّل بحماية ميشال عون قال له الأخير: «لمَ لا تأخذ فترة من الراحة؟ أنتَ في حاجة كبيرة إليها» (ص. ٣٦٣). والجميّل الذي أيّد «الطائف» في إطار جمعيّة ١٤ آذار للسيادة والسعوديّة وأميركا أوضح في الكتاب أنه كان معارضاً لـ»الطائف» لأنه جرّد رئيس الجمهوريّة من صلاحياته. لكن: هل تمتّع الجميّل بصلاحياته قبل «الطائف» وكان يتشارك معه في الحكم جعجع وعون ودول حلف شمال الأطلسي وجيش الاحتلال الإسرائلي، ثم النظام السوري والمعارضة الداخليّة له في ما بعد؟ لكن الجميّل يعترف بدور النظام السعودي، عبر سعود الفيصل شخصيّاً، في فرض الاتفاق على نواب الأمة الأحرار، وقال لهم مستعيناً بمثل إنكليزي: «خذوه كما هو أم اتركوه» (ص. ٣٨٤). (لكن الجميّل يستشهد بمثل إنكليزي لا وجود له، وقد اختلط الأمر عليه وتشوّشت رؤيته فحشر كلمات لا محلّ لها في مثل إنكليزي معروف فشوّهه تشويهاً).

أم عن سفرات الجميّل في بلاد الغرب فإنه يصفها بالتالي: لم يتوقّف نضالي، حرتُ أسافر من مدينة إلى أخرى محاولاً الدفاع عن القضيّة الوطنيّة» (ص. ٣٨٧). ها هو الجميّل يتنقّل في النضال من باريس إلى لندن ومونت كارلو وبوسطن وكل ذلك من أجل نهوض بلده. لكن لماذا يصبح تعريف النضال غير ما هو متعارف عليه؟ هذا مثل تعريفات كلمة ثورة في لبنان على مرّ السنة الماضية، فأصبح النزول إلى الشارع والهتاف البذيء ضد أم جبران باسيل هو ثورة تقارن بثورات أكتوبر وكوبا والجزائر. وهل يعلم شعب لبنان أن الجميّل حذّر غورباتشوف من خطر سياساته عليه؟ وغورباتشوف استمع إلى الجميّل مصغياً على الأرجح لما يعرفه عن طيور الفينيق في لبنان. وفي عام ١٩٩٠ ألقى الجميل «سلسلة محاضرات جامعيّة» في ليتوانيا. تغير التعليم الجامعي في ليتوانيا مذّاك.

ويعلن أمين أن انسحاب إسرائيل من معظم جنوب لبنان «أفقد مقاومة حزب الله مبرّر وجودها وسلاحها» (ص. ٣٩٣). لكن هذا الرئيس يعترف في كتابه بأنه لم يعترف لأي مقاومة ضد إسرائيل بمبرّر وجودها وسلاحها منذ أن تأسّس الكيان في عام ١٩٤٨. هو كان ضدّها عندما كانت إسرائيل على مشارف بيروت، وكان ضدّها عندما انسحبت نحو صيدا، وكان ضدّها حتى آخر يوم. ولو أن المقاومة فقدت مُبرّر وجودها فسلاحها، فمن الذي يمنع إسرائيل من العدوان على لبنان كما كانت في سنوات الرئيس المطلق الصلاحية في زمن الحرب؟ هل يمنعها جوزيف عون أم ميشال سليمان؟

وحضر الجميّل في عام ٢٠٠٢ حفلة عشاء في منزل رامسفيلد حضرها أيضاً العروبي الآخر، بول وولفويتز. وقال رامسفيلد للجميّل إنه معجب بصموده في سدة الرئاسة. أي فخر هذا للبنان؟ أعطونا رامسفيلد وخذوا الجميّل ليدهش العالم. وللجميل قريب في هيوستن يمارس المحاماة وهو مذكور في «كتاب غينيس» (الذي يشغل العقول الصغيرة في لبنان) لأنه نال أكبر بدل أتعاب عن دعوى قضائيّة—على ذمّة الجميّل (ص. ٣٩٩).

لم يضف الجميّل جديداً إلى تاريخ الحرب الأهليّة إلا ما لم يكن يقصده في معرض روايته. كان الجميّل يضيف إسهاماً آخر إلى السرديّة الانعزاليّة عن الحرب، مُضيفاً المزيد من الأضاليل والأباطيل والترهات. لكن حجم السرديات الانعزاليّة يكبر وليس هناك في المقابل من دحض وتفنيد من قبل قادة الحركة الوطنيّة المشغول معظمهم بكنز المال وإنشاء القصور واقتناء المنازل الأوروبيّة.

(تمّت)

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى