السيرة الذاتيّة لأمين الجميّل: عندما يصبح الارتهان للخارج «مقاومة» [2]
لا يزال الحديث هنا عن سيرة أمين الجميّل، «الرئاسة المقاوِمَة، مذكّرات»، والتي صدرت حديثاً – والتي تبعث الضجر في نفس القارئ، ولكنْ لتفنيد السرديّة الانعزاليّة ضرورات وواجب. وختمتُ في الحلقة الأولى بالإشارة إلى أنّ الجميّل وصف جامعة هارفرد بأنّها «مربط خيله» (ص. ٢٥)، وزاد أنّه لا يزال يحتفظ “«معها بعلاقات ودّية». ماذا يعني أن يحتفظ المرء بعلاقة ودّية مع جامعة؟ هل يدعو الجامعة إلى بكفيّا لحضور مهرجان الزهور، أم أنه يسافر إلى باريس لملاقاة الجامعة؟ لم يتوضّح ذلك. وهل يتّصل بالجامعة كي يتبادل وإياها أطراف الحديث؟
يعتنق أمين الجميّل في سرديّته تلك الفكرة المهينة عن المسلمين والتي كنَّها من قبل أبيه، بيار. ومفادُ الفكرة أنّ المسلمين في لبنان يوافقون سرّاً حزب «الكتائب» على عقيدته الانعزاليّة وعلى يمينيّته ورجعيّته وعلى الاستئثار الطائفي الذي مارسه رؤساء لبنان بعد الاستقلال، لكنّ الخوف وحده هو الذي يمنعهم من المجاهرة ومن المضي معهم في سياساتهم. والانعزال اللبناني طبّقَ هذه الفكرة في مرحلة المدّ الناصري، حيث جعل التأييد الشعبي العارم لعبد الناصر في أوساط المسلمين وغير المسلمين مفروضاً عليه بالقوّة، وروّج لفكرة أنّ الناصريّة سادت بالإكراه (وهذه الفكرة عاد وطبّقها السادات وخلفاؤه من بعده عندما جعلوا من ملايين مُشيّعي عبد الناصر أدوات بيد المخابرات المصريّة). لكن كيف وصلت يد عبد الناصر إلى لبنان عندما انطلقَ كل سكّان حي المزرعة، في عام ١٩٧٠، وهم ينتحبون بعد إعلان وفاة عبد الناصر؟ وبعد انطلاق المقاومة الفلسطينيّة، أصرَّ بيار الجميّل (كما يصرّ أمين هنا) على أنّ المسلمين ماشوا منظمّة «التحرير» قسراً، وليس اختياريّاً منهم. هذا التصوير للمسلمين يجعلهم تماماً مثل تصوير الصهاينة للفلسطينيّين: على أنّهم أطفال وأنّهم لا يريدون تحرير بلدهم وإنّما منظمّة «التحرير» أرهبتهم. المقولة في أصلها صهيونيّة وتناقلتها ألسنة «الكتائب». والفكرة في أساسها استعماريّة عنصريّة، أنّ الشعب المُستعمر ضعيف عقليّاً ولا يستطيع أن يقرِّر مصلحته، لأنّ غيره (الشعب الأرقى أو الطائفة الأرقى منه) يدرك مصلحته أكثر منه. ويستعمل اليمين اللبناني الانعزالي اليوم المقولة نفسها حول الشيعة: إنّهم لا يؤيّدون حزب الله وإنّما هم مُجبرون بحكم التخويف والتهريب و«وهج السلاح»، على ما يقول السنيورة في مصطلح قد يكون وصله من حاشية الأمير. لا، ويصرّ أمين على أنّ تضامن ضبّاط وعناصر في الجيش اللبناني مع القضيّة الفلسطينيّة كان بسبب تهديدات تعرّضوا لها (ص. ٣٩). كيف يمكن لأصحاب العقيدة الكتائبيّة إقناع أنفسهم بصوابيّة تلك النظريّة؟ لا يصدّقون أنّ هناك من دعم ويدعم القضيّة الفلسطينيّة في لبنان أو خارجه، من دون إيعاز أو ضغط أو منفعة ماليّة؟ قد غادرت منظمة «التحرير» لبنان، في عام ١٩٨٢، وكانت المعارضة الإسلاميّة واليساريّة لحكم «الكتائب» أشدّ وأعنف بكثير ممّا كانت عليه زمن منظمة «التحرير»، فأين الضغط والإكراه في ذلك؟ كيف يفسّر ذلك؟ وأذكر مرّة عندما أجريتُ مقابلة في سنوات الجامعة (لغرض بحثي) مع أنطوان نجم، وسألته عن التعارض بين أدبيّات الحزب وشعاراته وبين التركيبة الطائفيّة له، فقال لي: لا، كان هناك عضو في الحزب، مسلم سنّي، من عائلة طبّارة لكن منزله تعرّض للحرق في البسطة بسبب انتمائه للحزب. فسألته: لكن لماذا تعرّض منزل العضو الكتائبي المسلم هذا للحرق؟ ألا يفسّر شيئاً عن اتساع معارضة الحزب، لا بل العداء له، يومها، بين المسلمين وغيرهم آنذاك؟ (وفي منتصف الثمانينيات سألتُ نائب رئيس حركة «أمل» عن سبب التركيبة الطائفية الشيعيّة للحركة، فما كان منه إلّا أن نادى على مرافقه سائلاً عن «الأخ السنّي» العضو في الحركة كي أتعرّف إليه).
ثم يكرّر أمين كلّ المزاعم الإسرائيليّة (وحكماً الكتائبيّة، إذ أنّه كان لجريدة «العمل» زمن الحرب مُشرف إسرائيلي) عن المخيّمات الفلسطينيّة، وأنّها كانت تستقطب «إرهابيّين من كلّ حدب وصوب وخارجين على القانون لبنانيّين وأجانب”. دعني أقول له: أنا عرفتُ المخيّمات وقابلتُ فيها أجانب: وكان معظم هؤلاء طلاّباً من الكويت ومن تونس ومن تركيا ومن ظفار ومن أميركا ومن أوروبا ومن أميركا اللاتينيّة، وكانو يأتون إلى لبنان بغرض مؤازرة المقاومة الفلسطينيّة، بأشكال شتّى. هؤلاء إرهابيّون، وليس العنصريّون اليمينيّون البيض الذين كانوا يتقاطرون من أفريقيا الجنوبيّة (العنصريّة البيضاء) وأوروبا الغربيّة وأميركا للمشاركة في حفلة القتل الكتائبي، ومن أجل نصرة حملة عنصريّة ضد شعب فلسطين في لبنان؟ أمين نفسه يزهو في سيرة «كتاب طاولة القهوة» بحالة التشيكي جان سايسكي، وهو رجعي يميني معادٍ للشيوعيّة اضطُرّ إلى مغادرة تشيكوسلافاكيا بعد هزيمة النازيّة (نستطيع أن نفترض عقيدته غير السمحاء). سايسكي هذا كان من المدرّبين لقوّات «النخبة» في الحزب (ص. ٤٢). وفي كلّ مفصل في الحرب الأهليّة، وفي كلّ جريمة من جرائم «الكتائب»، يضيف إعلام «الكتائب» كذبة جديدة وذلك بغرض تبرئة النفس. هاكم أمين يزعم أنه قبل شهر واحد من اغتيال معروف سعد تعرّض هو لمحاولة خطف من قبل المقاومة الفلسطينيّة لكنّهم خطفوا… جارَه بدلاً منه. وقال إنهم أخطأوه لأنّ جاره كان يقود سيارة من طراز سيارة أمين ذاته (ص. ٤٢). مَن يصدّق هذه القصّة؟ ولو، يا أمين. كلّ هذه السنوات وهذه القصّة لم تكن معروفة ولم تنشر عنها الصحف خبراً فيما كان إعلام السلطة والانعزال يستغلّ أيّ حادثة للتأجيج ضدّ المقاومة الفلسطينيّة؟ ثم كيف خلطوا بين جارك وبينك وكانت صورك آنذاك تملأ الصحف والمجلّات والشاشات؟ هذه مثل اختلاق قصة اعتداء مزعوم على بيار الجميّل قبل ساعات من مجزرة عين الرمّانة. ومرّة أخرى، هذا أسلوب صهيوني قديم درجَ على فبركة اعتداءات فقط لتسويغ أعمال عنف وإرهاب من قبل العصابات الصهيونية ومن قبل الدولة بعد احتلال فلسطين.
يعيد الجميّل تلك الرواية عن أنّ مجزرة عين الرمّانة سبقها اعتداء على جمع كتائبي (يضمّ بيار الجميّل) أمام كنيسة سيّدة الخلاص في عين الرمّانة. لكنّ هذه الرواية تتعرّض لتبديل وتعديل على مرّ السنوات، ويضفي عليها أمين مسحة كوميديّة. والروايات التي تبعت مجزرة عين الرمّانة، حتى البيان الكتائبي الرسمي، لا تتضمّن ما أضافه أمين على الحادثة. لم يكن هناك أبداً محاولة اغتيال لبيار الجميّل. هذه رواية فُبركت بعد سنوات من مجزرة عين الرمّانة وباتت لازمة في الروايات التلفزيونيّة. التقرير الرسمي عن تلك الحادثة يتحدّث عن حادث سير بين سيارة مدنيّة وبين جوزيف بو عاصي الذي أطلق الرصاص على سائق السيّارة – هكذا من دون سبب. أي أنّ جوزيف بو عاصي هو الذي بادر إلى إطلاق الرصاص في ذلك اليوم المشؤوم، وحزب «الكتائب» هو الذي وضع حاجزاً لتفتيش المارّة فيما كان الحزب يشكو من وجود حواجز للمقاومة الفلسطينيّة في شوارع بيروت (للأسف، لم تكن المقاومة جدّية في وضع الحواجز، وكان عدد الحواجز قليلاً في عاصمة كانت تعجّ بعملاء إسرائيل من داخل حزب «الكتائب» ومن خارجه). وبعد الاعتداء على سائق السيّارة وفدت سيّارة أخرى وحدث تبادل إطلاق نار بينها وبين مسلّحي «الكتائب»، وهذه أدّت إلى قتل جوزيف بو عاصي وقتل عنصر في السيارة الثانية وجرح آخرين. لكن كلّ هذا لا يرد في روايات الانعزاليّين. والبيان الكتائبي في اليوم نفسه زعم أنّ الحاجز كان لقوى الأمن، فيما التقرير الرسمي أشار إلى حاجز مشترك بين قوى الأمن وعناصر ميليشيوية كتائبيّة. وبيان «الكتائب» نسيَ أن يذكر إطلاق الرصاص من قبل جوزيف بو عاصي على السيّارة الأولى. (راجع البيانات في كتاب أنطوان خويري، «حوادث لبنان: ١٩٧٥»، ص. ١٤ – ١٥.)
رواية أمين جعلت من المسلّحين الكتائبيّين «مجموعة من المؤمنين بلباس رسمي» (ص. ٤٢). ماذا يعني بلباس رسمي؟ هل يقصد لباس الإيمان الرسمي؟ تناسى أمين مرور السيّارة الأولى والتي أصيبَ سائقها برصاص من جوزيف بو عاصي، وعلى مرأى من قوى الأمن التي كانت رديفة لميليشيات الانعزال اللبناني المتعاون مع إسرائيل. أي أنّ حارس بيار الجميّل الشخصي، جوزيف بو عاصي، كان المعتدي الأوّل والثاني في ذلك اليوم. أمين كتب سيناريو جديداً لما جرى في ذلك النهار، إذ إنّه بعدما تجاهل إطلاق جوزيف بو عاصي للرصاص على سائق سيارة أعزل، روى أنّ سيّارة أقلّت أربعة مسلّحين فلسطينيّين قصدت الكنيسة وأطلقت النار هكذا من دون سبب على عناصر «الكتائب» أمام الكنيسة. أي أنّ أمين يريدك أن تصدّق أنّ مجموعة من المسلّحين الفلسطينيّين أرادت أن تستفزّ عناصر «الكتائب» في قلب عين الرمّانة، وضدّ حشد من حرّاس بيار الجميّل أمام كنيسة كان بيار يدشّنها. لا، لم يكتفِ أمين بهذه الرواية بل زاد عليها من سيناريو فيلم عربي، إذ قال إنّ المسلّحين لم يكتفوا بإطلاق النار بل هتفوا: «الكتائب الرجعيّين عملاء الخارج». من يصدِّق روايتك، يا أمين؟ فدائيّون فلسطينيّون يتوجّهون نحو حرّاس بيار الجميّل ويهتفون ضد «الكتائب» في منطقة تعجّ بمسلّحي «الكتائب» و«الأحرار» ويطلقون النار عشوائيّاً؟ وكان هناك اعتقاد عند أجهزة الدولة، في حينه، أنّ المخابرات الأردنيّة كانت وراء إرسال السيّارة الثانية، وكتابة تاريخ الحرب الأهليّة لم يشر بعد إلى الدور المتعاظم الذي لعبته مخابرات النظام الأردني ضدّ المقاومة الفلسطينيّة وحلفائها اللبنانيّين (وكانت المخابرات الأردنيّة ناشطة في التجسّس في الجامعات). طبعاً، يجد الجميّل ضرورة إضافيّة لتزوير قصّة باص عين الرمّانة وجعل ركّابه المدنيّين من «المسلّحين والمدنيّين» معاً وزعم أنّ تبادلاً للنار حصل، فيما أنّ القتلى كانوا حصراً من الفلسطينيّين: ويذكر أمين ٢٨ شهيداً فلسطينيّاً فيما العدد راوح بين ٢٨ و٣٢ ضحيّة. لكن، كيف تناقش عقليّة تسويغ ارتكاب مجزرة ضد ركّاب حافلة؟ أيّ نوع من الحجج يمكن أن يُسوق مع هؤلاء؟ لهذا، فإنّ شعار عزل «الكتائب» كان الردّ الأولي على المجزرة، لكنّه كان ردّاً ضعيفاً لسببيْن: ١) الرد اللفظي الذي صاغه كمال جنبلاط ومحسن إبراهيم وجورج حاوي أرادَ المضي في النضال البرلماني السلمي حتى بعدما تكشَّفت النيّات العدوانيّة العسكريّة لميليشيا «الكتائب». وعزل «الكتائب» كان ضعيفاً لأنّ لا جنبلاط ولا حاوي ولا إبراهيم التزموا به: جنبلاط نفسه التقى ببشير الجميّل في عام 1976، وحاوي وإبراهيم كانا يستعينان بسمير فرنجيّة لإجراء حوار سرّي مع الجميّل. ٢) هم رفعوا شعار العزل لأنّهم لم يريدوا الردّ العسكري على هذا الاستفزاز المفضوح. لكن ماذا تتوقّع من الحركة الوطنيّة؟ يكفي أن تذكر أنّ توفيق سلطان كان حاضراً بين قياديّي الحركة ليلة إعداد بيان رد الحركة الوطنية على مجزرة عين الرمّانة. وبيان الحركة الباهت زعَم أنّ ميليشيا «الكتائب» استغلّت مرض سليمان فرنجيّة لترتكب مجزرتها هذه. لكنّ فرنجيّة كان شريكاً عضويّاً في تحالف اليمين الانعزالي، وهو أمَرَ بفتح مخازن الجيش أمام كلّ ميليشيات اليمين من أجل أن يساهموا في القضاء على المقاومة الفلسطينيّة (وبرعاية أميركيّة – إسرائيليّة – أردنيّة) بعد فشل الجيش في اشتباكات عام ١٩٧٣. برّأت الحركة الوطنيّة سليمان فرنجيّة ممّا يعطيكم فكرة عن سبب انهيار هذه الحركة بالكامل أمام اجتياح إسرائيل في عام ١٩٨٢.
إذا كان أمين الجميّل يرفض أن يعتذر أو يعبّر عن ندم على مجزرة عين الرمّانة التي أرادها الحزب شرارة لانطلاق الحرب الأهليّة، فماذا تتوقّع منه في روايته؟ وينسب الجميّل إلى رشيد الصلح ما لم ينسبه إليه غيره، خصوصاً أنّ الجميّل ارتكب فعلاً شنيعاً ضدّ الصلح (كما سيرد أدناه) بعد تلاوته لبيانه عن مجزرة عين الرمّانة في المجلس النيابي. وقد سلّم الحزب مقاتلَيْن له، لكنّ الجميّل في نقلة نوعيّة يزعم أنّ المقاتلَيْن كانا بريئَيْن (ص. ٤٤). تريدنا أن نقتنع بأنّ بيار الجميّل سلّم لسلطات الدولة عنصرَيْن كتائبيّيْن لا علاقة لهما بالمجزرة؟ ولم يقضِ الشخصَيْن إلّا ٤ أشهر في السجن – وهذه المدّة كانت حكما قاسياً عليهما بحسب أمين الجميّل. ثمّ يأتي الجميّل إلى تلك الحادثة التي لا تزال فريدة واستثنائيّة في شناعتها في تاريخ المجلس النيابي اللبناني. في ١٣ أيّار ١٩٧٥، أدلى رشيد الصلح ببيان طويل ومفصّل عن المسؤوليّة «الكاملة» لحزب «الكتائب اللبنانيّة» عن مجزرة عين الرمّانة، ووضع الصلح المجزرة في سياق ممارسات وسياسات حزب «الكتائب» في لبنان (بيان الصلح في «السفير»، ١٦ أيّار، ١٩٧٥، وهو يصلُح ليكون وثيقة من وثائق فهم مسبّبات الحرب الأهليّة في مطلعها). وبعدما أدلى الصلح ببيانه، تبعه الجميّل وأمسك بتلابيبه من الخلف وطفق يجرّه صارخاً: «إن كنت قبضاي، خلّيك كي تسمع ردّنا. لوين رايح، يا جبان». ولم يردع الجميّل إلّا ظهور النائب مرشد الصمد الذي قال له: «عيب عليك، هذا لا يجوز. ما هكذا يُعامَل رئيس الوزارة. تذكّر من يمثّل في الحكم. تصرّف كما يليق بكِ كنائب». («السفير»، العدد نفسه، لكنّ «السفير» لم تذكر أنّ الصمد قال للجميّل أيضاً: هذا رمز المسلمين في لبنان). لا يروي الجميّل هذه التفاصيل لكنّه يذكر الحادثة مُجمِّلاً إيّاها، قائلاً: «ذهبتُ إليه وأمسكته من ذراعه ورددته إلى الوراء قائلاً: «ستستمع إلى ردّنا على ما قلته. لا يمكنك أن تهرب قبل أن نقول نحن كلمتنا». ويضيف الجميّل أنّ صورة إمساكه بذراع الصلح تحوّلت إلى «إحدى وثائق الحرب لكونها تفصح عن تهرّب رئيس الحكومة من تحمّل المسؤوليّة الدستوريّة والوطنيّة» (ص. ٤٤). لا، لم تصبح الصورة وثيقة عن تهرّب رئيس الحكومة من تحمّل المسؤوليّة. كانت الصورة إطلاقاً رسميّاً لصورة الجميّل الأزعر، الذي كان في حالة تنافُس مبكّرة، مع شقيقه بشير، الذي كانت له صولات وجولات مبكّرة في الزعرنة، عندما كان يجول في المدارس والجامعات بصحبة زعران الحزب لضرب طلابٍ مؤيّدين لليسار والمقاومة الفلسطينيّة (نعلم اليوم أنّ إدارة الجامعة الأميركيّة كانت تتعاون مع بشير الجميّل ورفاقه لقمع الحركة الطالبيّة). والجميّل كان يحمل صورة الدبلوماسي الدمِث فيما كان أخوه معروفاً بنزعه للعنف منذ بداية السبعينيّات. أراد الجميّل إطلاق صورة جديدة له من خلال الحادثة. والغريب أنّ الجميّل، الذي أخفى الكثير في سيرته وتستّر على الكثير واختلق وفبرك الكثير، اختار أن يزهو بفعلته الشنيعة هذه من دون خجل ربما لأنّه أراد تعريف جيل جديد من الكتائبيّين على خلفيّته غير الدبلوماسيّة. ولا يروي الجميّل أنّه كانت للحادثة مضاعفات خطيرة إذ أنّ الرأي العام رأى فيها اعتداءً طائفيّاً من قبل نائب كتائبي طائفي ضدّ رئيس حكومة لبنان – وهذا ما رمى إليه النائب مرشد الصمد في تعليقه للجميّل. (هرب الجميّل من المواجهة عندما قدم الصمد الضخم الجثّة). وعزّزت الصورة الرؤية الراسخة لتسلّط رئيس الجمهوريّة الطائفي وعن احتقار الأحزاب اليمينيّة لموقع رئيس الحكومة واعتباره مجرّد تابع لرئيس الجمهوريّة. لكنّ تمرّد رشيد الصلح كان إيذاناً بمرحلة جديدة من المواجهة الطائفيّة في داخل الحكم الذي أراد الاستئثار بنظام الهيمنة الطائفيّة. لم يسامح حزب «الكتائب» لرشيد الصلح صراحته ومجاهرته بالحقيقة (وكما قال الصلح في بيانه، إذا كان الحزب بريئاً فلماذا قبِل بتسليم عنصرَيْن من عناصره؟). وفي اليوم التالي لتلك الجلسة التاريخيّة، كتبت جريدة «العمل» عن رشيد الصلح: «شتمنا الدجّال وهرب» ووصفته بـ«عضو الذكورة». هذه هي إسهامات حزب «الكتائب» في العمل البرلماني والصحافي في لبنان. ويزعم الجميّل في رواية لم يسبق أن وردت في أيّ مرجع من مراجع الحرب أو صحف المرحلة، أنّه هو الذي كان وراء تعيين الصلح رئيساً للحكومة، فيما كان من المعروف أنّ كمال جنبلاط كان هو الذي اقترح الصلح وكان الصلح يستشيره باستمرار. لا، وبعد أن يتطرّق الجميّل إلى كلّ هذه الوقائع يتجرّأ على القول إنّ كلّ الحرب الأهليّة (وهو يرفض تسميتها بـ«الأهليّة» (ص. ٤٥)) كان مخططاً لها من الخارج. هي بالفعل كانت مُخطّطة من الخارج لكن من قبل أميركا وإسرائيل وكان الحزب مُنفِّذاً. لكن حتى القبول بمنطق أنّ الحرب كان مُخططاً لها من الخارج فإن ذلك لا ينفي أهليّة الحرب وأبعادها الداخليّة. هل كان اعتداء الجميّل على رئيس الحكومة نفياً لوجود صراع أهلي داخلي بين اللبنانيّين؟
وعلى طريقة فارس سعيد ووليد جنبلاط في التحليل البورَزاني عبر ربط مخطّطات الحرس الثوري الإيراني بإطلاق رجل في بيروت لشتائم من على شرفة منزله ضدّ جاره، فإنّ الجميّل يرى أنّ الشعب الفلسطيني في لبنان قرّرَ أن يرفع «درجة العنف على أرض لبنان» (ص.٤٦) لجذب الاهتمام الدبلوماسي. أي أنّ الشعب الفلسطيني دعا حزب «الكتائب» و«الأحرار» و«التنظيم» وكلّ أدوات إسرائيل في لبنان لارتكاب مجازر ضدّ المخيّمات الفلسطينيّة لجذب الاهتمام الدبلوماسي. لكنّ هذا الاتهام هو أيضاً مُستقى بحذافيره من تاريخ البروباغندا الإسرائيليّة ضدّ الفلسطينيّين. إلى هذه الدرجة اعتنق حزب «الكتائب» وقادته لغة ومصطلحات العدو.
صحيفة الأخبار اللبنانية