السيرة والعنف الثقافي.. مذكرات شعراء الحداثة بالعراق
هذه الدراسة مغامرةٌ قرر الشاعر والباحث محمد غازي الأخرس ركوبَها مثلما يقول، وهو يعرفُ مقدارَ المصاعب التي ستواجهه، ذلك أن الشروع في البحث عن أنساقٍ ثقافيةٍ في مذكرات شعراء روّاد وستينيين يعني تكشّف المخبوء والمسكوت عنه، والمضمر القابع في اللاوعي. وهذا دأب الباحث في كتاب على الأقل سبق هذا الكتاب، وهو “خريف المثقف في العراق”.
فهو باحثٌ يحفرُ في مناطقَ خطرةَ وغير محبب الخوض فيها، لأنها تُعري المثقف العراقي، وتهدم الهالة التي أحاطت به بفعل تراكم الأيديولوجيا التي دأبت جاهدة على أن تصبغ المثقف بألوانها المتباينة، غير أن هذه التعرية ليست من أجل الهدم بل من أجل البناء، فليس بمقدورنا تجاوز أوضاعنا الحالية أو هدمها دفعةً واحدةً لنبني بعدها ثقافة جديدة لا تمتُّ بجذورها إلى تراثنا الثقافي، على أن ذلك لا يعني بأيّ شكلٍ من الأشكال أن نسلّم بكل ما ترسّب في هذا التراث، ونجعل منه قاعدةً رصينة لنشيد ما نطمح إليه في واقعنا الثقافي غير متناسين أن النكوص الذي يعيشه المثقف العراقي لا يمكن تجاوزه إلاّ بتفكيك ونقد المنظومة الثقافية والأنساق المعرفية والحوامل الاجتماعية.
يتكون الكتاب من ثلاثة فصول مقسمة إلى ثمانية مباحث يسبقها تمهيدٌ نظري وخاتمةٍ في ثلاثمئة واثنتين وخمسين صفحة، الناشر جامعة الكوفة، ط 1 بيروت – لبنان 2017.
بعد تناول مصطلح “النسق” والإسهاب في مناقشته في التمهيد النظري، يُعرّج على “النسق والتعارض النسقي في الثقافة العربية” فيمهد الأرض قبل الدخول في الموضوع الأساس، وهو وإن يُخطئ كغيره فيما يسمى خطَأً “الصحراء” والأدق “البيداء” لأن العربي متعلق بحصانه أكثر من ناقته ويشهد على ذلك شعره، فضلاً عن أن مفردة “الصحراء” لم تذكر في الشعر العربي قبل الإسلام وربما في التراث العربي قبل نهاية العصر العباسي الأول.
إن البيداء موطن الحصان ولا مكان له في الصحراء، واعتراضي هذا لا يقلل من أهمية هذا التمهيد الذي كان ضروريًّا بل منهجيًّا قبل الشروع في بحث العنف الثقافي عند شعراء الحداثة في بلد ينجب كبارًا، لكنهم لم يعرفوا التآلف والتآزر، وكأن كل عراقي هو جبل شامخ لوحده.
فحول حقبة الحداثة
السياب ورهطه
يفكك الباحث مرحلة ما بعد الرابع عشر من يوليو 1958 ميلادية، حيث انفلات الصراع من عقاله، بين “القوميين والشيوعيين” إذ أن كل أيديولوجية منهما راحت تبني سردية تطهيرية لها وترمي الجهة الأخرى بكل السلبيات المستمدة من قاع المجتمع المشبع بثقافة العهد العثماني والمبنية على اغتيال الشخصية معنويًّا وجسديًّا، وقد لاحظ الصحافي اللبناني أحمد أمين دوغان في كتابه “الحقيقة كما رأيتها في العراق” أن شعب العراق “يحب العنف ويكره اللين ويقدر البطولات ويعشق المغامرات، وأنه يفضل اللجوء إلى السيف دائمًا في كل قضية وطنية للبتّ فيها بسرعة وحزم” وهذا يعني برأيه أنه شعب “لسانه في يده وقلبه في لسانه وعقله في قلبه” هذه هي خلفية المشهد التي شهدت صراع بدر شاكر السياب مع الشيوعيين، إنها جزءٌ من السياق وعنصر من عناصر لحظة الصراع.
التحليل الذي توصل إليه الشاعر والباحث محمد غازي الأخرس أحزنني لأنني كنت قد ذكرت في إحدى مقالاتي وتمنيت أن أكون مخطئًا، بأن الصراع بين القوميين والشيوعيين في العراق تحول إلى صراع كسر العظم وتجرد من أيّ نزاهة عرفتها الصراعات السياسية بين الأحزاب، وهذا الصراع هو السبب الرئيس في إضعاف العراق ووصوله إلى حافة التقسيم، لأن القوميين العرب لم يلتفتوا إلى خصوصية العراق وفي المقابل فإن الشيوعيين الذين تكاد تكون قياداتهم على امتداد عقود غالبية غير عربية وتحمل نفسًا قوميًّا واضحًا مبنيًّا على قاعدة كسر العظم نفسها، أي إلغاء وإقصاء ما هو عربي في العراق، أقول لم تلتفت هذه القيادات إلى خصوصية العراق عند العرب ودوره المحوري والتأسيسي في الحضارة العربية الإسلامية.
في سلسلة مقالاته التي نشرها عام 1959 في جريدة “الحرية” البغدادية ذات التوجه القومي، يسرد السياب تجربته مع الحزب الشيوعي بطريقة اعترافية تنتمي لجنس السيرة الذاتية؛ إذ عرض السياب الكثير من التفاصيل والحقائق التي كان هو راويها وبطلها وضحيتها. وهي مذكرات تنتظم في سياق من العنف الرمزي والثقافي الذي لم يشهد له المجتمع الثقافي مثيلاً. وفي مثل ذلك الجوّ المشحون بالعداء الأيديولوجي. تسود لغة العنف الرمزي والتسقيط والتعريض بالخصوم والتنكيل بهم أشد التنكيل.
لقد بدت هجمة السياب على الشيوعيين متماشية مع ما كان سائدًا تلك الأيام بحيث نجد صورة الشيوعي في مروياته إنسانا منحطًّا، متهتكًا غادرًا، جبانًا، ويفتقر لغيرة العربي وما يحمل من قيم وأخلاق تميزه عن غيره، على مدى صفحات كثيرة يفكك الباحث مذكرات السياب مبرزًا نَسَقَي الفحولة والخصاء التي كانت بارزةً في تلك المرويات.
سردية البياتي
في هذه السردية يفكك الباحث ثنائية الفتوة والنرجسية ومؤثرات المتخَيَّل الشعبي على الكثير من آلياتهما ومظاهرهما، فهو يجسّد نسق الفتوة بشكلين متعارضين:
الأول: هو “الفحولة الشعبية”، ويظهر كثيرًا في شعره وتصريحاته الصحافية إذ تسود من خلاله لغة الشجاعة والبطش بالخصوم والتهجّم بلسانٍ ثوريّ على الأنظمة وشعراء السلطان.
والثاني: هو “الفتوّة الصوفية”، وفيها يبدو الراوي مترفعًا على صغائر الأمور، لا سيما الأحقاد الشخصية والخلافات مع الشعراء.
يكمن الفرق بين سرديّتَي السياب والبياتي، أن الأول كتبها يوم كان في اشتباك ثقافي صنعه سياق عصره بكل تأكيداته، بينما البياتي يكتب مذكراته بعد عقود من تكوّنه الثقافي، وبطريقة استرجاعية تأملية، دون ضغوط ودون أن يكون هناك خصوم مشخّصون كما في حالة السيّاب، وهو يجهد لإخفاء ما يقوّض خطابه من الداخل، متماهيًا مع صورة مفترضة رسمها لنفسه.
نازك الملائكة الأنوثة المتفحلة
يفكك الباحث الأنساق المتصارعة عند نازك الملائكة وعدم قدرتها على البوح والتدوين بحرية تامة مثلما عليه المرأة الأميركية كما رأتها خلال وجودها هناك، ويُنوّه الباحث بكتاب نازك المهم والذي لم يأخذ حقَّه من الاهتمام وهو “التجزيئية في المجتمع العربي”. وأن التعارض النسقي عند نازك يختلف عما عند غيرها من الشعراء.
نازك الملائكة انتهكت الامتياز الذكوري في الثقافة العربية، وذلك عبر ريادتها الشعر الحر عام 1947. لكن النسق الداخلي الشغّال عندها ظل محتفظًا بالمبادئ ذاتها المشكلة للفحولة.
نازك الملائكة ابنة أسرة بغدادية ترجع جذورها إلى المناذرة اللخميين الذين حكموا العراق ومناطق شاسعة تصل إلى البحرين ونجران قبل الإسلام بقرون؛ وهي تُشكّل وأسرتها أنموذجًا لما تتميّز به المدن والبلدات العراقية، ألا وهو البيوتات (الأُسَر) وهذه البيوتات منحت هويتها للمدن العراقية أي لعموم العراق، فما من أسرة إلاّ ومنحت اللغة العربية شاعرًا أو أديبًا أو باحثًا أو مؤرخًا أو فقيهًا أو لاهوتيًّا، وأغلب الأسر هذه أنجبت عديد الكُتّاب.
لم يكن “ارتداد” نازك مثلما يحلو لكثيرين أن ينعتوه إلاّ بوصفها ابنة نسق لعمقه التاريخي بالعراق ومدنه أصبح واقعًا تحت تأثير الشعور بأنه النسق المحافظ والحارس الأمين على التراث العربي الذي أسهم فيها إسهامًا عظيمًا.
مرويات العنف اللفظي في الستينات
يعدّ الشاعر فاضل العزاوي أبرز ممثلي هذا العنف، والباحث يستشهد بجمل واضحة تعبّر عن عنف الشاعر، وفي أثناء القراءة تذكرت حادثة رواها لي صديق يكبرني سنًّا منذ أعوام طويلة عن هذا الشاعر الذي قدّمَ استقالته فرفضها رئيس التحرير فما كان منه إلاّ أن رماه بكرسيٍّ، ولا أدري مدى صحة هذه الحادثة، لكن الجيل الستيني في العراق كان العنف اللفظي شاهدًا على عنفٍ مارسوه، تحت تأثير الظروف التي سادت العالم بعامة والعراق بخاصة.
وهذا العنف من أسبابه إصرار العزاوي (أنموذجًا) على البرهنة أنه صاحب ومالك الحقيقة الوحيد وراويها الشرعي القادر على استعادتها. وهذا ما شكّل رؤى الستينات، أي العنف الثقافي الموجّه للخصوم.
إننا أمام سرديتين أساسيتين، بعثية ويسارية، الأولى لا تعترف بالثانية وتزدري أعمالها وتُهَوّن من شخصياتها؛ بينما تفعل الثانية العكس، تدافع عنهم وتجهد لتقديمهم بُناةً للروح الستينية. ولا ينسى الأنموذج (العزاوي) أن يعرض صورة عن نفسه بوصفه الموجّه لتحركاتهم وأفكارهم.
سامي مهدي ونسق دونية الآخر
يُسرّب سامي مهدي نوعين من الدلالة وفق نسقين متوازيين أحدهما ظاهر والآخر مخفي. يتجسّد الظاهر في طريقة كتابة وصفية تستند لوثائق تعطيها شكلاً من الموضوعية والحياد. أما النسق المخفي فيتجسد في عبارات توحي بالاستعلاء والنظر بدونية لخصيصة ما أو أسلوب أو فكرة أو مهنة. يقوم هذا الأسلوب على أساس يمكن تسميته “التمويه بالموضوعية” بحسب الباحث وذلك بإيراد عبارة مادحة، لكنها لا تصمد أمام سيل من العبارات العنيفة الناقمة والناقدة. إنها الاستراتيجية التي تحكم سرديته القائمة على احتكار الشرعية وانتزاعها من الخصم الأيديولوجي.
تفكيك الجيل
مثاقفتان فرديتان
يمكن عدّ ما كتبه فوزي كريم وصلاح نيازي سرديةً تفكيكية تنقض سرديتَي فاضل العزاوي وسامي مهدي من نواح متعددة، فهي، أولاً، لا تزعم الحديث باسم تيار ستيني أو جماعة أو أيديولوجيا، وثانيًا، لا تقف بموازاة السرديتين ولا تنافسهما فتًقارن بهما، إنما تقاطعهما معًا وتحفر في المسكوت عنه في خطابهما، وبهذا فهي سردية ثالثة. فالشاعر فوزي كريم في سرديته نجد صورة المثقف الشكاك وغير الواثق من الأفكار السائدة، وملخصها أن أثر المثقفين في أحداث عصرهم ليس كما يوهم أصحاب المرويات. فهم “بناة يوتوبيات” وضحايا أفكار كبرى تستلبهم وتغرّبهم عن واقعهم؛ وتعويله على فضح الجناية التي ارتكبتها الأيديولوجيا بحق الشعر والثقافة.
أما سردية الشاعر صلاح نيازي، فيسميها الباحث بسردية “المغترب المتثاقف” فهي فهم آخر عن فكرة انعزال المثقف العراقي وهربه من السياق الذي يجد نفسه فيه، إذ الصراع العقائدي محتدم، وضحاياه قد لا يكونون أطرافًا في ذلك الصراع بالضرورة. في مثل هذا النوع من السرديات، يتمحور السرد حول مفهوم المثقف المنفي ميتافيزيقيًّا.
الثقافة المضادة
مرويات الهامشيين
بعد تنظير يستغرق عدًدا من الصفحات، يعدّه الباحث مدخلاً لفهم أنساق الهامش، ابتداءً من مفهوم الهيمنة وثقافة الهوامش، وانتهاءً بالثقافة المضادة عند الجماعات الفرعية، يتناول الباحث شاعرين من طينة واحدة، هما حسين مردان وعبدالقادر الجنابي على الرغم من عدم انتمائهما للجيل نفسه؛ لكن ثمة روابط تربط بينهما، منها التشرد، والتصعلك اجتماعيًّا، الأول في بغداد والثاني في لندن، لأيمانهما بالثورة على القيم والأعراف، وانتهاكهما خطاب الثقافة السائدة، وأنهما أظهرا توحدًا بين التمرّد الاجتماعي والثقافي، فراهن كلٌّ منهما على الكتابة خارج نظام الشعر الإيقاعي السائد. مردان بترويجه كتابة ما يسمّيه “النثر المركَّز″، والجنابي بمراهنته على قصيدة النثر والكتابة السوريالية.
في خطاب حسين مردان ثمة تحريك للأنساق من موقع إلى آخر، والموقعان متعاكسان دائمًا. فهو الثوريّ الجبّار في لغته حينًا لكنه عاجز عن الفعل وشاعر بالمرارة في حين آخر، قاسيا يتوعد خصومه والعالم، ثم تفاجأ بهِ بعدَ حين يتوسل بأولئك الخصوم كي يفهموه.
أما الشاعر عبدالقادر الجنابي فهو اللامنتمي العنيف في عصر الانتماء، فهو امتداد لظاهرة حسين مردان وسيكمل مسيرته بوصفه شاعرًا مُشَرَّدًا اجتماعيًّا، ومتمردًا على النوع الشعري عبر تركيزه على قصيدة النثر، بحسب الباحث.
متون وهوامش
جماعة كركوك وشعراء مدينة الثورة
الهُويّة في بغداد تُصنّف بوصفها تكثيفًا لهُويّة وطنية مشرعنة، بينما تُصنّف هُوية المنحدرين من المدن الأخرى بحسب الثقافيين كاختصار للهُويّات المحلية التي يمكن عَدّها هُويّات فرعية أو مشتقَّة؛ ومثل هذه الهويات تنزع عادةً لمقاومة المتن باستعمال أنساقٍ مخفيّةٍ. إن بغداد مركز لصنع كلّ ما يثبت أَنَّكَ تنتمي إلى الهُويّة المشرعنة، وعلى المهاجر أن يندرج في نسقها، إذا ما أرادَ الحصول على اعتراف بانتمائه لها.
الخاصية التي تتمتع بها بغداد، أراها أضعف مما ذهب إليه الأخرس، قياسًا بمدن كثيرة تنقلت بينها وعشت في مجتمعاتها، فاتضح لي أنني هامشي مهمل، بل مدان ضمنيًّا بدعاوى شتى أقلها “عدم الاندماج” حتى أنتمي فعليًّا لمتنها ومعترفًا أن هُويّتي الأمّ هامش.
ينقل الشاعر وليد جمعة عن الشاعر شريف الربيعي، في تعريفه لجماعة كركوك، أن “هؤلاء التركمان خوش ولد ونستطيع أن نقيم علاقة معهم”، هؤلاء “التركمان” هم فاضل العزاوي ومؤيد الراوي وأنور الغساني وجليل القيسي (أنظر الألقاب العربية) سرجون بولص وجان دمو (سريانيان) الأب يوسف سعيد (مسيحي عربي-سرياني) صلاح فائق (تركماني).. إلى آخر القائمة.يرى الباحث أن أغلب الستينيين القادمين من الهوامش كانوا يدورون حول تلك المركزية. لذلك بدا من النادر أن يتحدثوا في نصوصهم عن هُويّاتهم الفرعية وانحداراتهم المدنية. وإن تحدثوا، فإنهم كانوا يستدركون خطابهم ويقمعونه بالاندماج في الخطاب المهيمن. بمعنى أن الحديث عن الهوية الفرعية يبدو غير مفضّل في سياق الخمسينات والستينات، لأنّه يُخرج النص عن سننٍ سائدةٍ مبنيّةٍ وفق نسقٍ ما يمكن أن يُعرف بـ”الوطني”؛ بقدر ما تحيّد هويتك الفرعية، ستكون “وطنيًّا” ومشرعنًا. هذا ما يفهمه أغلب الستينيين وأولهم القادمون من الهوامش.
يبدو سرجون بولص وفاضل العزاوي عينتين مثاليتين لهذا الوهم، (وَهْم) تحييد الهُويّات الفرعية وتناسيها. يرى الباحث أن على أصحاب الهويات الفرعية التخلي عن تلك الهويات ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً. ثم عليهم تقديم القرائن على كونهم أكثر عروبة في ثقافتهم من العرب أنفسهم. وأنهم متشرّبون بالتراث ورموزه ولغته. وما ذهب إليه الباحث حقيقة ناصعة في اللغات القومية قاطبة، وأعني باللغة القومية تمييزًا لها عن اللغة الإثنية، أن اللغة القومية تملك تراثًا مكتوبًا مدونًا عمره مئات السنين كتب فيها آلاف الشعراء والأدباء والمؤرخون والباحثون والمتفلسفون واللغويون وإلى آخر أنواع الكتابة، أُنجزَ قبل القرن العشرين، فعليه ما ينطبق على اللغة العربية نراه جليًّا بالفرنسية والإنكليزية والإسبانية والفارسية والتركية والبرتغالية والإيطالية؛ هذه هي اللغات القومية التي لا مناص من الذوبان فيها مهما زعمت نخبها السياسية والثورية والثقافية دفاعها عن اللغات الإثنية بل والهويات الصغرى قاطبة.
قصيدة النثر
الهوية المقاومة
إن السياق كان يشهد صراعًا بين نوع الشعر الموزون، كناية عن هيمنة ثقافة عربية تقليدية، من جهة، وقصيدة النثر كناية عن ثقافة مهيمن عليها، من جهة أخرى، فقد كان من المناسب أن تكون قصيدة النثر الميدان الأساسيّ للصراع النسقي بين بغداد وكركوك. والمقصود تحديدًا أن تكون قصيدة النثر هي الشكل المناسب لمقاومة الخطاب الرسمي من ناحية كونها خطابًا هامشيًّا.
مع هذا النوع، سيجد الهامشيون شكلاً لإدارة الصراع وخرق الخطاب السائد؛ ولن يكون من قبيل المصادفة أن يتفق الراديكاليون والمثقفون القادمون من الهوامش على اتخاذ هذا النوع قناعًا للمقاومة، بدءًا من شعراء جماعة كركوك مرورًا بحسين مردان وحميد المطبعي وعبدالقادر الجنابي وليس انتهاءً ببعض شعراء السبعينات وغالبية شعراء جيل الثمانينات.
سردية شاكر لعيبي وفرضية المضاد الريفي
يتبنى الشاعر شاكر لعيبي فرضية يُسمّيها “الحداثة الريفية” بوصفها أساسًا لسردية مقابلة للسرديات العقائدية التي عرضها الستينيون عن جيلهم. محاولاً في فرضيته تقديم غطاء بعيد عن الأيديولوجيا لتجربة جيله، وهذه الفرضية تزاوج بين الطبقية والجهوية وتقوم أساسًا على ثيمة ذات اتجاهين؛ الأول هو دفع الأيديولوجية عن الجيل بوصفه ضحية للتنازع الثنائي في الستينات، والثاني هو التأكيد على أنه جيل ريفي مفارق للسردية الرسمية التي تبنتها الثقافة العراقية فيما يتعلق بالشعر، بوصفها سردية حضرية، بغدادية، تقوم على نسق احتقاري للريف والجنوب بشكل خاص.
لكنّ لعيبي، وهو يصوغ سرديته، إنما يستعير من النسق المضاد بعض مرتكزاته، وأبرزها الصراع العقائدي.
إن تعقد المشهد الاجتماعي وصراع الهويات الفرعية مع الهوية العامة هما اللذان أدّيا إلى ظهور ما يمكن تسميته بـ”السردية الكركوكية”، من جهة و”السردية الشروقية”، من جهة أخرى. فضلاً عن ذلك اشتراك الجماعات في هذه المدينة وتلك بوضع اقتصادي وثقافي متشابه حيث يسود الفقر ومعه تتسيّد هوية مشرعنة تقمع الهويات الفرعية بحسب الباحث، على الرغم من الأخيرة تزخر بالفولكلور وتتميز بمخيلة ساحرة بحسب وصف شعراء جماعة كركوك ومثقفي مدينة الثورة كل لمدينتهم.
يرى الباحث في خاتمة الكتاب، أننا، في السيرة الذاتية، بإزاء تحريف مضاعف؛ “الذاكرة تحرّف الماضي والكتابة تحرّف ما حرّفته الذاكرة. وهو ما يجعل الذات متعددة متشظية تمتنع عن المؤلف معرفتها ثابتة مكتملة”. الخطاب السيرذاتي، بالأحرى، على الرغم من زعمه الصدق والنزاهة، يبقى خطابًا خادعًا “يوهم بالتوحّد بينما جوهره التعدد ويطلب منا التسليم بالتطابق في حين أن الاختلاف حقيقته”.
كان السؤال الذي لم يفارقني منذ الصفحات الأولى وحتى آخر صفحة في الخاتمة، هل هذه رسالة ماجستير حقًّا؟ أم أنها أطروحة دكتوراه؟ ولو أن جامعاتنا تنتج في رسائل الماجستير هذا العمق وهذا الاشتغال والحفر الأكاديمي المعرفي، فإننا بخير؛ لكن هذا الأمل يتقلص حين نرى الواقع، أولاً من المستوى المعرفي لحملة الدكتوراه عندنا وثانيًا أن الباحث هو الشاعر والكاتب محمد غازي الأخرس الذي يُعدّ بحق من الباحثين المتميزين في الثقافة العربية.
مجلة الجديد اللندنية