«السيّدة»
كان اسمها «سيدة الشاشة العربية» والاسم نفسه يضع الشاشة موضع البيت والعائلة فتكون سيدة الشاشة أمَّاًً للعائلة السينمائية وأمينة على بيتها. والحال أن هذا الاسم ليس سينمائياً فنحن لا نعرف مثيلاً له في أي سينما في العالم، لكن ما فيه من دلالة عائلية يشير، من طرف بعيد، إلى ما يحيط بموقع فاتن حمامة في السينما العربية، «سيدة الشاشة العربية» اسم لا يدل إلى صفة جسمانية كما كان ينسب إلى مارلين ديتريش ولا إلى طريقة في الأداء كما كان ينسب إلى بريجــيت باردو أو ســعاد حسني أو هند رستم فهؤلاء لسن فقط سيدات، ان لهن مع ذلك صفات أخرى.
كان لفاتن حمامة من الاحترام والتوقير ما يكاد يطغى على صفاتها الجسدية أو الفنية، كأنما كان ذلك يحجبها، لا نكاد ننظر إلى ما فيها من إغراء وإلى ما في صوتها من غُنة جنسية فذلك يكشفها ونريد لها أن تبقى مستورة، ونريد لها أن تبقى متوَّجة ولها كل ما للتاج من جلال واحتجاب.
«سيدة الشاشة العربية» وهي مع ذلك تكاد تكون بلا صفات على حد عنوان رواية موزيل، وليس ذلك إلا من فرط السمو، فمثلها مثل السيدة التي فتنتها بما يشوبها من وقار ومن مهابة، وربما كان شرط ذلك أن لا تكون لها ميزة أو خصوصية، إلا ان تتربع على عرشها وتظهر في جلالها.
الخلاصة أن «السيدة» بما يدرجها في عموم السيدات، أي أن امتيازها الوحيد هو مطابقتها لمثال ليس سوى العادية مجسدة، هكذا كانت فاتن حمامة، امرأة جميلة ليس إلى حد أن يكون جمالها جارحاً. ابنة خفيفة الظل لكن ليس إلى حد أن تشطح وتخرج على البيت وقواعده. تحب لكن بشرف. إنها المثال الذي تكونه ابنة البيت وابنة العائلة والفتاة الجميلة الحيوية. إنها في ذلك الفتاة العادية في بيتها وفي علاقاتها وفي أسرتها وفي عواطفها وأهوائها، ليست منزوية ولا معزولة ولا زاهدة لكنها في الوسط من كل شيء وفي اعتدال كل شيء. انها عادية بل هي العادية وقد استحالت مثالاً. ذلك لا يكون إلا في نوع من الفن الشعبي الذي يحتفي في شتى نماذجه بالشعب، بالنموذجي المتشابه العادي المشترك العديم الخصوصيات والعديم الصفات والميزات، فلا يبقى من الشخص عندئذ ما يذكر بشيء إلا هذا العموم الشامل.
كان لسعاد حسني بالتأكيد ما يميزها، تلك الخفة التي تقارب الطيش، وكان لهند رستم ما يميزها، ذلك الإغراء الذي طالما ذكَّر بمارلين مونرو، وكان لأخريات ما يميزهن: الفجور الشعبي أحياناً كما عند ناديا الجندي، كل هؤلاء بما فيهن فاتن حمامة كن يؤدين في الغالب نموذجاً واحداً يكاد يصبح علماً عليهن، كما كان الأمر مثلاً مع فريد شوقي وتوفيق الدقن والمليجي الذين نمذجوا الفتوة والاحتيال والدهاء الشعبي. هنا يبدو مصطلح الشعبي قابلاً لتفاسير عدة مما يجعلنا نحار في نسبة فاتن حمامة إلى هذا «الشعبي»، إلا أن للمصطلح أوجهاً عدة وطبقات عدة، فالشعبي في حال فاتن حمامة، ولعل هذا سر تربعها على عرش السينما العربية، الشعبي هنا منسوب، ليس إلى القاع الشعبي وليس إلى مجتمع الفتوات والشطار والفاجرين والفاجرات. الشعبي هنا يُنسب إلى فئة لها نفس الحق في أن تدَّعي انها الشعب أو تنتحل اسمه. إنها الطبقة الوسطى التي نجد بينها الجمهور الأكبر للسينما، ونجد بينها من يرفعون نجوماً، ويخفضون نجوماً ونجد بينها من يبحثون في شخصيات الأفلام عمّن يحاكونهم ويتلبسونهم. والأرجح أن فاتن حمامة كانت نموذج هذه الطبقة. لم تكن عديمة الخصوصيات إلا لتماهيها، لتكون مثالها. ليست عاديتها إلا من هذا الباب، إنها كما تريدها هذه الطبقة، أنيقة بدون تبرج، حرة لكن بمراعاة للقواعد، عاشقة لكن بلا فجور، مهذبة لكن بدون استخذاء. هذا هو النموذج الذي تؤثره الطبقة الوسطى صانعة النجوم، ربما لهذا حازت فاتن حمامة لقب «سيدة الشاشة العربية» وربما لهذا حرص هذا الجمهور على أن يحيط نجمته بالاحترام الذي يبذله عادة لنماذجه. ربما لهذا صُرف النظر عن أدوار أدت فيها الزوجة الخائنة والمرأة الدساسة الكاذبة. صُرف النظر عن هذه الأدوار وبقيت فاتن حمامة، في نظر جمهورها ونقادها، الاتزان والاعتدال مجسدين. لم تكن فاتن حمامة ببراءة الأطفال ولم تكن ساذجة ولا ذاهلة، كانت مثال الفتاة المتعقّلة الرصينة التي تحسن تقدير الظروف وحساب المفاجآت، وليس هذا هو النموذج المستحب في الفن، لكن الجمهور، الذي كان يحتفي بالروايات الرومانسية لعبد الحليم عبدالله وإحسان عبد القدوس ويوسف السباعي، كان هو الجمهور الذي طلب نفس النماذج في السينما. لقد كان جمهوراً من طبقة صاعدة يبحث عن نفسه وعن قيمه وعن مطامحه. كانت فاتن حمامة سيدة هذا الجمهور الذي اختار السينما والروايات مسرحاً لمثالاته وأغراضه.
صحيفة السفير اللبنانية