افتتاحية الموقع

الشأن السوري… ماذا بعد؟

ماهر عصام المملوك

لفت انتباهي قبل ايام  تعليق لإحدى الإعلاميات المختصات بالشأن السوري في احدى القنوات العربية حين سألها فريق التحرير عن الموضوع الذي ترغب في تناوله بخصوص الملف السوري لهذا الأسبوع فأجابت بابتسامة متعبة: “سأتحدث هذا الأسبوع عن الصين”. الجميع أصابهم الذهول، بين من ظنها تمزح ومن اعتقدها تبالغ.

ولكنها أوضحت واردفت بجديّة وهدوء أن كثرة تعقيدات الملف السوري، وتشابك أزماته، جعلتها تشعر بالتيه واليأس من إمكانية الكتابة عنه مجددًا.

تذكرت هذه الحادثة وأنا أكتب اليوم. إذ أجد نفسي قريبًا مما وصلت إليه تلك الإعلامية المختصة من حالة من الإنهاك الفكري والوجداني أمام مأساة بلا نهاية واضحة، وأمام وطن أنهكته الحرب والتدخلات والصراعات. ومع ذلك، فإن من الضرورة بمكان أن نعيد التذكير بما كانت عليه سوريا، ليس تمجيدًا للماضي، بل محاولة لفهم الحاضر وتلمس الطريق نحو المستقبل.

سوريا… وطن عظيم وشعب منهك

لم تكن سوريا يومًا “جنة على الأرض”، لكنها كانت وطنًا يعمل وينتج ويزرع ويصنع، ويصدّر علمًا وأدبًا ودواءً. أرضها غنية وشعبها مبدع، غير أن سوء الحظ التاريخي كثيرًا ما تمثل فيمن حكمها وأدار شؤونها.

فبعد الاستقلال من الاستعمار الفرنسي في القرن الماضي وحتى فترة قريبة من الزمن ، كانت الجامعات الحكومية تستقبل مئات الآلاف من الطلاب مجانًا، وكان التعليم الأساسي شبه مجاني للجميع.

  • احتلت سوريا المركز الأول عربيًا في إنتاج القطن، والثاني في إنتاج القمح، بحسب تقارير منظمة الأغذية والزراعة (الفاو).
  • بلغ عدد الدول المستوردة للدواء السوري أكثر من 50 دولة حتى عام 2010.
  • كانت حلب وحدها تمتلك نحو 70% من القوة الصناعية في البلاد، فيما تميزت دمشق بصناعات النسيج والجلديات والكهربائيات وحتى الآلات الزراعية.
  • أما غوطة دمشق، فكانت تحوي أكثر من 40 مليون شجرة مثمرة، تحولت اليوم إلى ركام بفعل الحرب.

في تقرير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي لعام 2009، صُنّفت سوريا ضمن الدول ذات “التنمية البشرية المتوسطة العليا”، مع معدل أمية يقل عن 10%، وتغطية تطعيم للأطفال تجاوزت 95% من السكان.

 

كل ذلك لا يعني أن البلاد كانت بلا مشاكل. فالفساد والاستبداد السياسي في عهد البعث وفي عهد الاسد الأب والابن كانا واقعًا يعيشه السوريون يوميًا.

لكن وسط محيط إقليمي مضطرب، اعتبرت سوريا – بشهادة تقارير الأمم المتحدة عام 2007  من أكثر دول الشرق الأوسط أمانًا للعيش والعمل. والدليل الأكبر أن دمشق استقبلت بعد الغزو الأميركي للعراق عام 2003 أكثر من مليون ونصف لاجئ عراقي، دون إقامة مخيمات لجوء، بل اندمج معظمهم في المجتمع.

فما الذي حدث؟

من حق السوري أن يحلم بالحرية والعدالة. لكن الكارثة أن حلمه بالحرية لم يتحقق، فيما ضاع الوطن في فوضى الحرب. تحوّل الصراع من قضية شعب يريد التغيير إلى ساحة مفتوحة لمصالح إقليمية ودولية، ولمشاريع عقائدية ضيقة، بل ومصالح شخصية.

لم يخن سوريا من طالب بإسقاط نظام مستبد، بل من حوّلها إلى ساحة للمتاجرة بالشعارات، من حوّل الأرض من أرض حضارة إلى خريطة مقسمة يحسب كل جزء من هذه الخريطة إلى كيان اما إقليمي او دولي .

إن القول الشائع اليوم “الأرض لمن يحررها” لا يصمد أمام الحقيقة: فلا من “حرر” بقي وفيًا، ولا من “قرر” امتلك مشروعًا وطنيًا جامعًا.

النتيجة أن سوريا تحولت إلى فسيفساء من سلطات أمر واقع، لكل منها مرجعيته الخاصة، وكل منها ينهش الجغرافيا والإنسان لحساباته.

سوريا بين الأمس واليوم

من المؤلم أن نستعيد مشاهد الأمس القريب: بلد كان يصدّر الكتب والأدوية والدراما العربية، ويتباهى بمستوى علمي وأكاديمي متقدم في المنطقة. واليوم، يغدو مشهداً مختلفا ً تماما ً.

فالاقتصاد الذي كان متنوعًا بين الزراعة والصناعة والتجارة، تحطم تحت وطأة الحرب والعقوبات، لتصبح البلاد على حافة انهيار شامل. البنية التحتية التي بُنيت على مدى عقود، تحولت إلى أطلال نتيجة حرب الأربعة عشر عاما مابين الحرب والثورة  . ملايين من السوريين صاروا لاجئين في أصقاع الأرض، بينما يعيش الباقون في الداخل بين مطرقة الفقر وسندان غياب الأمل.

ماذا بعد؟

لم يعد السؤال: “من يحكم دمشق؟” بل الأصح أن نسأل: “من يحكم عقولنا وضمائرنا؟” كيف نحرر أنفسنا من قيود الطائفية والمصالح الضيقة، قبل أن نحرر الأرض من الاحتلال والتقسيم؟

الطريق إلى سوريا جديدة لا يمر عبر السلاح وحده، ولا عبر شعارات فضفاضة جوفاء، بل عبر مشروع وطني جامع، يقوم على المواطنة والعدالة والمساواة. وهو مشروع يحتاج إلى جيل جديد، يرفض أن يرث الهزيمة واليأس، ويتمسك بالأمل رغم كل الجراح.

أما سوريا اليوم، فهي قناع مشوّه على وجه محروق. وطن يتنفس لكنه يترنح. ومع ذلك، فإن احترام الذاكرة واجب: هذا البلد الذي كان يومًا مصدرًا للأمن والعلم والعمل، يستحق أن يستعيد مكانته، لا بالحنين وحده، بل بإرادة صادقة لإعادة بناء وطن حرّ، عادل، يتسع لجميع أبنائه.

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى