كتب

الشاعر الذي بدأ حياته قاتلا يكتب “جسد الحبيب”

الشاعر الذي بدأ حياته قاتلا يكتب “جسد الحبيب”… هل أنقذ الشعر خاصة والكتابة الابداعية عامة الشاعر والناقد والمترجم الأميركي جريجوري أور من السقوط تدريجيا في بئر الانتحار؟ ففي الحادية عشرة من عمره أطلق النار على أخيه الأصغر من غير قصد فأرداهُ قتيلاً، وبعد فترة قصيرة توفيت والدته بشكل مفاجئ، الأمر الذي دفع بوالده لإدمان الأمفيتامين ليموت متأثراً به، يقول “أؤمن بقدرة الشعر في مواجهة ومقاومة وعلاج الإضطراب العاطفي والنفسي والإرتباك الروحي والأحداث المُفجعة التي تحدث أثناء حياتنا اليومية” أي إيمانه الراسخ بقدرة الشعر خاصة والكلمة بصفة عامة على الشفاء.

هذا الشاعر الأميركي المعاصر المتعدد العطاءات الإبداعية، ترجم له الشاعر حسن حجازي كتابه الرائع “جسد الحبيب” وذلك لأول مرة بالعربية، وصدرت أخيرا عن دار الأدهم بالتعاون مع دار العولمة الكويتية، الفكرة الرئيسية للكتاب ـ وفقا للمترجم ـ مُستقاة من الأسطورة المصرية القديمة “إيزيس وأوزوريس”، خاصة فكرة البعث وعودة الروح للجسد بعد الموت.

ويوضح حجازي “ما يهمنا هنا هو ارتباط فكرة كتاب جسد الحبيب بفكرة البعث وجمع أجزاء الجسد المتناثرة وفكرة انتصار الخير على الشر، وانتصار الجمال على القبح. وجمع أجزاء الجسد مثلها مثل جمع صفحات كتاب جسد الحبيب. يكتب فيه الجميع كما نرى عبر صفحات هذا الكتاب. فهو متاح للجميع للكتابة عليه والإضافة لصفحاته النقية الناصعة التي تفيض بحب البشر وإذكاء روح التسامح والود وترسيخ قيم العدل والحق والمساواة دون تفرقة بين جنس أو لون أو مذهب. يقول جريجوري:

أن نفنَى ونكون عُرضة للموتِ والفناء

حينَ تملأنا الرهبة، ويسكننا الخوف،

ونحنُ نَجمع الأعضاء المتناثرة لأوزوريس.

من المبكر أن نقول: الإنقاذ لِمن؟

ويؤكد أن “جسد الحبيب” كتاب يشكل احتفالا واحتفاء روحيا بالكلمة، فهو مجموعة قصائد تتدفق كسيرة ذاتية سابحة في الخيال ومشحونة بأحاسيس روحية وجدانية. فكل قصيدة تطلق الضوء على مظاهر مختلفة من الأحوال البشرية، إنها قصائد تستكشف الحب، الضياع، الإستعادة، البعث، إعادة المفقود والضائع، جمال العالم، جمال المحبوب، غموض الشعر وسحره. فالغرض من الكتاب وهدفه وغايته هو مساعدتنا على الحياة والإستمتاع بها أكثر وأكثر والإيمان الراسخ العميق بقضية البعث والعودة للحياة مرة اخرى بعد الموت، وذلك يربطنا بالعالم وبحياتنا العاطفية والوجدانية والروحية والاقتراب أكثر من الطبيعة والفطرة والجمال. ويذكر أن الحبيب هنا مرة يتم مخاطبته بضمير الذكر “هو” أو ضمير الأنثى “هي” فلا فرق، فالكتاب يخاطب الإنسان بصفة عامة.

يقول جريجوري:

وضعت الحبيب في صندوقٍ خشبي.

وأكلت النار جسده؛ والتهمت النيران جسد الحبيبة.

وضعت الحبيبَ في قصيدة أو أغنية.

طُويتها بين صفحتين من هذا الكتاب.

كما نجده يقرر في ثبات :

ليس الضياع وحده، بل ما يأتي بعده.

لو انتهت كلها في ضياع،

لا يهم ما يتبقى..

لكنكَ تستمر/ والعالم أيضا يستمر.

ويلفت حجازي إلى أن تلك هي القدرة على الحياة فمن الضياع تأتي الحياة ومن العدم تُخلق الأشياء. ولنرى هنا روعة التصوير ودقة التحديد في أهمية الكلمة والذكرى التي يبقى أثرها كما لمسناه جميعاً في شعر الرومانسيين حيث تبقى الذكرى عالقة بالذهن تستدعي أبهى وأسعد الذكريات وربما أشدها قسوة كشعر وليام وردث ورث وجون كيتس وبيرونـ والكثير من شعراء الرومانسية:

الشاعر: والكلمات، الكلمات

في أغنية أو قصيدة :

ألم يكونا نهرا تجري فيه مشاعرنا وتفيض؟

ألم يكونا ضفافا لذاكَ النهر

وكنتَ أنتَ الفيض المتدفق؟

يرى جريجوري الشاعر:

الشاعر باستمرار دائماً يصارعُ الموت

بصورة عبثية مهما يؤديه فوق الرؤوس/ رؤوس متفرجيه،

فالشاعر مثل لاعب السيرك، كالبهلوان

يتسلق القوافي إلى سلك عال/ من إبداعه وصنعه هو نفسه

وقد حظي “جسد الحبيب” باحتفاء نقدي واسع حيث كتب عنه الناقد المعاصر تيد جينوياز قائلا “بالتأكيد إن عثرات ومزالق الحياة المعاصرة تبدو جلية وواضحة على حافة تلك القصائد، لكن التركيز هنا بصورة جلية وواضحة يتجه نحو المُبهم الذي يتجاوز الحد. لدرجة أنه يبدو أننا ننزلق نحو زمن أقل فوضى وأقل ضجيجا. إنها خبرة في العادة قد تم الإعتناء بها وصقلها وتوظيفها لقراءة الكثير من إبداع القدماء من مبدعين ومفكرين، وكانت بلا شك وبصورة واضحة تُشكل جزء هاماً من إلهام جريجوري ونبعا غزيرا لا ينضب لشعره وأفكاره وكتاباته وابداعه”.

ويتابع حجازي أن قصائد الكتاب السابحة في النشوة والخيال تستدعي روح جلال الدين الرومي في رحلة بحثه عن المحبوب واعتقاده وإيمانه العميق في الخصائص الشافية للشعر والفنِ والجمال. فإبداع جريجوري كان دائما ما يتأثر بالمآسي التي مرت به في شبابه وصباه، “يا لجمال الحبيب!”، مجموعته الشعرية المتميزة بها مجموعة من القصائد الوجدانية الغنائية القصيرة التي تتأمل وتستكشف النتائج التي تلي وتتبع وتلقي الضوء على ما يطلق عليه ويسميه: “الحبيب الميت”. خصوصاً عندما نقرأ سلسلة من تلك المقاطع بصوت عال. بالرغم من المظهر العادي للجملة، إلا أن لغة جريجوري المباغتة والمفاجئة تدعو للدهشة:

ذاك السطر المفرد حبل

والقصيدة تطل برأسها

تحملق في الظلام في دوامة النهر

أنت تمسك بطرف الحبل

والحبيب يمسك بالطرف الأخر.

الإنقاذ على وشك القدوم

من المبكر أن نقول: الإنقاذ لِمن؟

أنتَ أم للحبيب؟

ويرى حجازي عبر مسيرته الطويلة ومراحل تجربته المختلفة اعتبر جريجوري الشعر كوسيلة/ كمخرج شخصي من خلال كتاباته وإبداعه، ليجد من خلاله طوق النجاة “الشفاء ـ السلوى ـ القدرة على الصمود” ليخرج به من حزنه ومن سهده، ليخلق ويصنع ويبدع أحداثا يصعُب تفسيرها، لتفسر أحداثا أكثر مأساوية”. هذه التأملات ـ مثل الكلمات التي تعتبر بمثابة استجابات واضحة للخسائر والفجائع التي ألمت به في حياته وتقدم للشاعر ـ وللقارئ معه بالطبع ـ مَعينا لا ينضب في شكل خاص للعلاج والشفاء. فكلمة “الحبيب” التي تأخذ شكل إنسان، حيوان، زهرة تظهر في معظم تلك القصائد كنغم ساحر تحمل الكثير من الدلالات، غالباً كترنيمة شعرية عذبة وساحرة تنشر سحرها وعبيرها عبر صفحات الكتاب: “الحبيب” تشبه إلى حد كبير قصائد مارفن بيل المعروفة بـ “الإنسان”. بالنسبة إلينا. بالرغم من ذلك هذا العمل يقوم بهذا وأكثر: فهو يقوم بإلقاء الضوء ويفسر ويؤرخ لأوقاتنا القصيرة ولأعمارنا نحن أيضاً على الأرض.. نجده يقول:

القصيدة التي تخترق جسدك في مقابل جرح

ألا ينجرف العالم من خلالها

يدخلُ فيك، يتسللُ داخلك، ثم يندفع كالشلال؟

ويضيف أن الكتاب متعلق بالوجد وبالرؤى الحالمة والسابحة في الخيال، الأمر الذي يعيد إلى الأذهان جلال الدين الرومي في رحلة بحثه عن الحبيب وإيمانه الراسخ بجمالية السمات والخصائص الشافية للشعر والجمال. فهو احتفاء شعري واحتفال يشبه القُداس أو حفلات الذكر بل وبطقوس الصوفية. فالكتاب سيرة ذاتية خيالية ومحاولة جمع شتات النفس في كل المقطوعات الساحرة ـ سواء كانت قصائد أو أغنيات ـ لم يسبق كتابتها، فهي تدفع الشدو المشبوب بالنشوة والسابح في بحور الصوفية والوجد نحو تيارات ودوائر ملحمية رحبة. فشاعرنا جريجوري يكتشف الحبيب ويجده في كل شيء، في كل مكان، ويربطنا بشدة وبقوة بحياتنا العاطفية ويجذبنا نحو الإحساس والشعور الصادق. فكل قصيدة تلقي الضوء على مظهر بارز وواضح للأحوال الإنسانية. فالقصائد معاً تستكشف الحب، الضياع، البعث، جمال العالم، جمال المحبوب، غموض الشعر وأسراره. وتتضمن أيضا الدعوة للحياة وقبولها بعذوبتها وعذاباتها, برقتها وقسوتها. فالحبيب نبحث عنه في كل مكان وفي كل زمان، نبحث عنه في أنفسنا، في شتات أفكارنا، أحلامنا، في مَن نحب. هي دعوة لإعادة بناء العالم… كيف ؟

يقول الشاعر:

دعنا نعيد بناءَ العالمِ بالكلمات

بلا تهور، دون أن نتوارى مما نخاف،

ولكن بهدف، وبقصد

ثم نجده يقرر بجلاء:

بالقوة الأسطورية للأبجدية

انظر كيف تقترن الكلمات ثم تندمج

فتعيد الحياة للمحبوب

دائما هي تحطم وتفتح العظام اليابسة لكل حرف

وتوقظ عناصر الحياة المخبؤة في الداخل.

الكتاب متعلق بالوجد وبالرؤى الحالمة والسابحة في الخيال، الأمر الذي يعيد إلى الأذهان جلال الدين الرومي في رحلة بحثه عن الحبيب وإيمانه الراسخ بجمالية السمات والخصائص الشافية للشعر والجمال

يذكر أن جريجوري وَلِد في نيويورك وترعرع في هاديسون فالي الخصيبة. وأنه قضى قرابة العام في أحد مستشفيات هايتي ليتلقى علاجا نفسيا مكثفاً بعد مقتل شقيقه، حصل على البكالوريوس في الآداب عام 1969 وبعدها درجة الماجستير في الآداب من جامعة كولومبيا عام 1972. له العديد من المجموعات الشعرية منها: “يا لجمال الحبيب ـ كتاب جسد الحبيب ـ البومة الحبيسة ـ مدينة الملح ـ أورفيوس ويوريديس ـ البيت الأحمر ـ جمع العظام معاً ـ إحراق الأعشاش الفارغة”. له الكثير من الدراسات والكتب النثرية المهمة، والكثير من الترجمات من اللغة الروسية والأوكرانية. حصل على الكثير من الجوائز والأوسمة. عمل كأستاذ للأدب في جامعة فريجينيا، بالإضافة لتأسيسه لبرنامجها الرائد في الكتابة الإبداعية. حيث كان يشغل وظيفة مدير لقسم الكتابة الإبداعية بالجامعة. أيضا عمل كرئيس للتحرير لنشرة فريجينيا الأدبية من 1978 حتى 2003.

نماذج من الكتاب

عندما أفتحُ الكتاب

أسمعُ الشعراء

في همسٍ وبكاء،

في ضحكٍ ونحيب.

بآلافِ اللغات يقولونَ،

يرددون نفسَ الشيء:

نحنُ ما زلنا نحيا.

فسِرُ الحياةِ

هو الحب،

الذي يفردُ جناحيه

فوقَ كلِ الآلام،

الذي يضم بين ذراعيهِ

الطفل الموجوع،

الذي يُخرِج اللونَ الأخضر

من البذرة الهاوية

 نحو الأرض.

 

عودةُ الحياة للجسدِ،

جسدُ الحبيبْ،

الذي هو العالم.

الذي هو القصيدةُ،

قصيدةُ العالم،

قصيدةُ الجسد.

 

هو ليسَ بسحرٍ،

وليسَ بخدعة.

فكلُ شهيقٍ هو بعث..

هو عودة للحياة.

 وعندما نصغي إلى القصيدة

التي هي العالم،

وعندما تحملقُ عيوننا

في جسدِ الحبيب،

فنُولَدُ من جديد

في كلِ الأجزاء المقدسة

من أجسادنا نحن:

القلبُ ينقبض،

العقل يرسل وابلاً من الومضات،

والدمعُ ينهمر في صلاته

على الخدين

لينعمَ بلقاء الثغر الباسم الجميل.

 والحزن أيضاً هناك.

كلُ حزنِ العالم.

 لأنَ المد ينحسر،

لأنَ الأمواج العاتية تعاقبُ الشاطئ

والكائناتُ الصغيرة التي كانت

تحيا هناك.

لأنَ الجسدَ تَبعثر،

لأنَ الموتَ حقيقة

وأحياناً لا يكون الموتُ

مع ذلك، هو ليسَ أسوأ

ما في العالم.

 لو أن الحزنَ لا يجري

مثلَ النهر عبر الكتاب،

لماذا علينا أن نذهب هناك؟

ماذا علينا أن نشرب؟

 في مصر،

المحبوب ليس في الأهرام

لكنهُ في القصيدة،

منقوشا ، منحوتا على حجر،

على شفتي الحبيب

وعلى عينيه.

 تجثو إيزيس وتركع

على ضفافِ النيل الخالد.

تجمعُ أعضاءَ أوزوريس.

تتحركُ أعضاء إيزيس الحية

فوقَ الميت،

تتحرك تتمايل كما لو كانت

في إحدي نوباتِ الرقص،

جذعها يتمايل، ذراعاها الطويلتان

تمتدان في حركة ساحرة،

مستمرة وهادئة،

في سكونِ وجلال.

 والنهرُ تحتها

يقومُ بحركاتهِ الخاصة،

في دواماتٍ وحلقات،

صوتُ الماء وخريره

كما لو كانَت هناك حنجرةٌ

يتمُ تنقيتها،

كما لو كانَ العالمُ

على وشك أن ينطق

وأن يتكلم.

 كُتِبَتْ القصيدة على الجسد،

وكُتِبَ الجسد على القصيدة.

 الكتاب قد كُتِب في العالم،

والعالم قد كُتِبَ في الكتاب.

 تلكَ هي التبادلية في الحب

التي تتخطى وتتتجاوز الموت.

 

 

ميدل إيست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى