فن و ثقافة

الشاعر السوري عبد الكريم العفيدلي| المعنى في قصائد الديوان الأخير (وجهة نظر)

عماد نداف

جذبتني شهرة الشاعر السوري عبد الكريم العفيدلي ببحديثه عن الشعر النبطي رغم أنه كتب أنواعا أخرى من الشعر، فالشعر النبطي كما يحكي عنه ورد ذكره  في مقدمة ابن خلدون، وامتاز به الهلاليون في سيرتهم المشهورة “سيرة بني هلال”وهو الشعر الأقرب لبيئة القبائل العربية وحياة البداوة والصحراء.

وعندما تحدث في المركز الثقافي عن هذا الفن الشعري أشار إلى تشابه بحوره ببحور الشعر العربي الفصيح، وقال إن هناك مدرستين هما المدرسة النجدية التي تختص بالشعر النبطي وما يرتبط به، والمدرسة الفراتية التي تهتم بألوان الشعر الغنائية التي يغلب عليها طابع الأغنية، ولأن العفيدلي ابن منطقة الفرات، وابن القبائل العربية التي تفيض بالأصالة والنخوة والبلاغة اندفعت لمراجعة أشعاره ، وجاء ديوانه الجديد (عاشق ويعيد)، ليؤكد تلك المعاني..

أثار العنوان انتباهي، ففي معناه استلهام لعبارة (ناجح ويعيد) التي تتعلق بنتائج الشهادة الثانوية التي يسعى صاحبها لتحقيق مستوى أعلى يؤهله لدخول مفاضلة القبول الجامعي، فهل يمكن للعاشق أن يكرر عشقه رغم نجاحه فيه ؟ وكيف تعامل مع العشق في ديوانه الأخير؟

كنت أفكر في الإجابة على هذين السؤالين في متن قصائده الجميلة، فإذا بي أنأى عن عملية البحث هذه لأن القصائد أخذتني إلى المعاني الأخرى التي يربطها خيط العشق الذي يتحدث عنه في العنوان !

هذا الخيط الذي أشرت إليه جعل شاعرنا العفيدلي مسكون بعلاقة من نوع خاص مع الوطن والمكان والذاكرة والمبادئ ..

وإذا كانت رؤيته أن كتابة القصيدة الشعرية عند الشاعر الموهوب تأتي حسب الحالة التي يسببها الانفعال الوجداني كما جاء في لقاء صحفي فإن الفصيح هو الأقدر على تصوير الهم الوطني والواقع الذي يعيشه المجتمع، وهذا مانجح فيه.

فكيف صاغ هذه المعاني تحت وطأة كثير من دواوين الشعر لشعراء كثر افتقدوها ، فضاعت القصائد وضاع بيت القصيد وتلاشت روعة الشعر في النفوس ..

أراد الشاعر عبد الكريم العفيدلي أن يؤسس لخصوصية في شعره، وهو المتمكن من كتابة كل أنواع الشعر، ونراه في إحدى القصائد يحاكي الحالة الشعرية في نهجه الخاص، فيعلن عن سعيه لخصوصية شن الآخرون الحرب عليها عندما يقول :

أنا لست الفرزدق أو جريرا        ولا نهجي كما نهج النواسي

ولكني طلبت لك طريقى           فحرمه الجماعة بالقياس

هذا يعني أنه أراد أن يجعل قصائده صورة عنه في وجدانه ومعاناته وعشقه وضعفه أمام الزمن والحياة التي جعلتنا في مواجهة دائمة مع ظروفها، فدمشق التي أحبها كل الشعراء والمؤرخين والرحالة هي الثابت الوحيد في وجدانه الشعري المتألق :

ماذا أزيدُكِ يادمشقُ قصيدا ؟             أنتِ القصيدُ قلائداً وعقودا

ياقبلةَ الشرفاءِ لم تتغيري                رغمَ البلاءِ ،يظلُ وجهُكِ عيدا

وفي عشقه للمدينة الخالدة يقول أيضاً:

لا زال فُلُّكِ أبيضاً وعبيرهُ                يُذكي النفوسَ إرادةً وصمودا

لازال سيفكُ ضَارباً في وجهِهم           منذُ الفرنجِ ولا يزالُ شديدا

يابنت من وصلَ الخرائطَ كُلَّها            تيّهي على كُلِّ الوجودِ وجودا

عظمة هذا النوع من التعاطي الجديد مع المدينة الخالد التي تكالبت عليها المصاعب والظروف القاسية، يجعلك كقارئ تبحث عن المزيد في كنه القصائد ومعناها ، وخاصة أن العشق للمكان يأخذ بعدا آخر عندما يكتشف العفيدلي أن مقومات العشق التي أحبها في المكان تغيرت ، وفي هذا التغيير ما يجعل العاشق في خالة لوعة ويأس، ولنر معا كيف شاهد نهر الفرات الذي يحبه بعد أن عاد إليه في سنوات الحرب :

عجبت لحاله هل شاخ فعلا ؟       أم الأغراب قصوا رافديه

كأن النهر ليس بنهر أهلي         ولا الجسر العتيق مشو عليه

جعلته هذه العلاقة مع الأمكنة والتغيرات التي تطرأ عليها، يراجع صورته هو أمام الحالة الكونية في أحاسيسه ورؤاه، فإذا هو ينكسر أمام الزمن من دون أن يستسلم لهذا الانكسار.

لقد هزم الزمن عنده تصابي العاشق وتطلعه إلى ملاحقة المحبوب، فأعلن ذلك في قصيدة مميزة يقول فيها :

بان المشيب بلحيتي وتعابى        هل بعد هذا بالهوى أتصابى ؟

ويسأل بشفافية العاشق المتيم :

بل من يعيد إلي زهوة شيبتي            بعيون ريم لم أعد جذابا

هو ذا المفتاح السحري للشاعر العاشق، يحاكي الأشياء كما لو أنه على تواصل حي معها ، فيراقب هذات التواصل في كل لحظة، ويسأل عن ذاته فيه ، وفي قصيدة المرايا يعلق بكائيته على جدار الزمن وكأن الزمن هنا هو تراكم المآسي وليس عدد السنين :

بكيت على المرايا مابكتني         وكم بالوجه تخدعني المرايا

وكنت أحبها وتحب وجهي         إلى أن باح وجهي بالخفايا

تلاشى كل ما عكسته نورا         وصدت مثل فاتنة الصبايا

أمن شيب تراها أنكرتني           أم الأقدار أخلفت النوايا

والرائع في هذه القصيدة التي نحمل الكثير من المعاني هو بيت الختام الذي يعلن فيه خلاصة اكتشافه :

فهمت بأن مرآتي سراب           وأن الروح من أنقى المرايا   

يحمل هذا البيت أكثر من معنى في علاقته مع فلسفة الحياة، فيقدم اكتشافه الرائع بضرورة تحطيم النرجسية ووهم القوة والشباب لأن الروح هي وحدها التي تبقى شابة ولأنها وحدها المقياس الحقيقي لطبيعة الانسان، لذلك نراه يعلن في قصيدة أخرى، أن كل هذا التوجس من وحشة الزمن لم يقتل عنده حبه لريما فيقول :

مازلت أرسم في عينيك شطآنا     وأغزل الضوء أشواقا وألحانا

ناديت وجهك ياريما أشكله         كي يستبين إذا إذا ماالليل غشانا

وريم في لغة التخاطب الشعري عنده ثابتة كما هي ليلى عند الملوح، وكما هي بثينه عن جميل .. يتكرر اسمها في أكثر من قصيدة وتبدو وكأنها ثيمة القصائد الذي يستعيد فيها خفقان قلبه ، وويقول مخاطبا ريم :

ياريم ياصمت وجد لا أطيق به     جعلتُ من حبك المجنون عنوانا

وعندما تبحث في سيكولوجية الشاعر عبد الكريم العفيدلي وعلاقته مع الواقع، تراه وهو يكتشف زيف الشعارات التي كانت تزين حياة الأمة والناس، والتي كشف الدهر عن سقوطها لسقوط أولئك الذين جعلوها رافعة لسلطانهم :

مهلا فما كل الرؤى وردية         بعض القيود تفلسف الحرية

ألبستهم قسمات وجهي كلها       وكفرت بالحزاب والقومية

وفلسطين كان لها حصة، في هذا السياق ، فقد سقطت في جحيم مأساتها، من دون أن ترف أجفان صانعي السياسة العربية، لذلك استدرك العفيدلي ليقول :

أما فلسطين ..معذورون ياعرب    قد أشغلتكم وعود كلها كذب

تحيا وتمضغ  موت القوم صامدة    لايؤلم القلب لا خسف ولا عطب

ونترك الطفل في الأنقاض يأكله   حقد العدو ، ويعلو وجهانا العجب

وإذا كان هو اليأس في جوانب الحياة العامة ، فما الذي حل بالشاعر الذي تأثر بكل ما جاءت بها المرحلة ؟  

قد كان قلبي بالطفولة روضة      لم يبق منه سوى صدى يتكسر

وأنت تقرأ أشعار عبد الكريم العفيدلي تنتابك مجموعة أحاسيس أولها أنه صادق في تعامله مع الأمكنة لأنها وعاء الحياة ومع الناس لأنهم العنصر الأهم فيها، وأنه قاس على ذاته عندما يعلن انكساره، وأنه تواق إلى مستقبل جديد يرمم فيه كلَّ تلك الهزائم ، ولذلك تراك تقف مطولا أمام قصيدته رسالة إلى الغد ويقول فيها :

الشعر كان رسالة .. فاجعل له     من نورك المكنون معنى أكبرا

واكتب لنا وطنا يليق بصبرنا      واختر لمن نادى التحرر منبرا

واسق الزمان بخاطر متوثب       لن يعرف الاذعان أو يتعثرا

وارفع يديك الى السماء مسلما    عل الدعاءَيعيد وعدا ادبرا

قل للغد الآتي : سنمضي كلَّنا      نحيا الحقيقة لانسوّف مدبرا

واكتب بأن الحلم يمضي ليله       ليقوم واقعنا الجميل مشمِّرا  

 

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى