الشام، وماركة الفول المدمس بوز الجدي!

عندما تقرأ أو تسمع عن “الشام” ، تجد أن ثمة سحرا ما يجذبك إليها، فهي تشبه فتاة جميلة ضاحكة الوجه تجيد نسج الحكايات وسردها، فإذا أنت مكبل إلى الحكاية ومن يحكيها معا، فالحكاية جميلة ومن يحكيها أجمل منها ..

والغريب أنك ستكون أسيرا لأي تفصيل صغير، يتعلق بها، كما لو أنك اُسرت لحركة قُبلة خفيّة من فم شاب يُرسلها إلى عروس تمر في “كوريدور” وقد تزينت للظهور في مهرجانها وربما يكون خطيبها أو عشيقها من يدري ؟!

تأخذك الشام إلى الحكايات والخصوصيات والتفاصيل الصغيرة، فهل سمعت ب”القدْره” إنها وعاء يُسلق فيه الفول لإنضاجه قبل أن يلد ويصبح “فولا مدمسا” وهو من أطيب المأكولات الصباحية المشهورة في الشام !

ثم هل سمعت ب” بوز الجدي” ، وبوز الجدي هي كنية من الكُنى المعروفة بين سكان الشام، إلا أن خصوصية هذه الكنية هي أنها تعتبر في القرن الأخير من حياة الشام بمثابة ماركة.. نعم “ماركة” مطاعم الفول في سورية ، أي “كنتاكي” السوريين الفقراء ..

وفي حكاية “بوز الجدي” أنه عبارة عن دكان صغيرة في حي الشيخ محي بن عربي في جبل قاسيون حيث تتسلق الجبل مئات البيوت الشعبية التي تعج بالسكان واتصف سكانها بالفقر والشجاعة وأصالة انتمائهم إلى المدينة، ويسمون غالبا بسكان الصالحية ..

اشتهرت هذه الدكان ببيع الفول المدمس الطيب ، والفول المدمس هو الفول المسلوق المتبل بالحمض والزيت والتوم والملح والذي يطيب أكله مع البصل الحلو وخبز المشروح الناضج والساخن في صباحات دمشق وخاصة العطل الأسبوعية ..

كان الفنانون وأحيانا مسؤولون كبار وتجار ورجال أمن .. كانوا يتجهون في آخر الليل لتناول آخر وجبة من وجبات يومهم “كنتاكي الفقراء” عند بوز الجدي، وأذكر أن المحل كان يبقى ساهرا إلى الفجر حيث يودع آخر السهارى الذين يتناولون الفول عنده ليستقبل أول المستيقظين الذي يعدّون العدة لاستقبال صباح جديد، أي أنه كان يعمل 24 ساعة على 24 ساعة ..

وفي شهر رمضان المبارك كان بوز الجدي، ينشغل في ساعات الإفطار ليلبي حاجة الصائمين إليه، ومائدة الإفطار في الشام لاتخلوا عادة ، وإلى الآن، من طبقين مهمين هما “الفول المدمس” والفتة بالحمص، المعروفة ب”التسقية” ، فكيف إذا كان الفول المدمس من دكان بوز الجدي !

ولأن “بوز الجدي” أصبح ماركة ، كما أشرت، فإن هذه الماركة انتشرت، وصار يمكن أن تقرأ لافتات تحمل الاسم نفسه في مختلف أحياء دمشق، والطريف في الأمر، أن بعض بائعي الفول، كانوا يشاركون أحد أفراد عائلة بوز الجدي ليضعون اسمه على الواجهة لتروج سمعتهم، لكن ما الذي حصل ل”بوز الجدي” هذه الأيام ؟!

ذهبت إليه قبل حلول شهر رمضان المبارك، فقد دعوت صديق لي لتناول الإفطار هناك، لأنا كنا قريبين منه، وعندما وصلنا وجدناه يبيع الخضروات والفجل والبصل، وقيل إن المحل المجاور يتابع البيع، فذهبنا إليه، وهناك تناولنا إفطارنا ..

كان صحن الفول المدمس غير ذلك الصحن الذي كنا نشتهيه أيام زمان .. كان غالي الثمن، لايحتوي سوى حبات قليلة، والحمض الذي فيه هو مزيج “ملح الليمون والماء” وليس من الليمون، إضافة إلى أن زيته قليل وهو من النوع الرديء ولايوجد خبز “مشروح” ساخن بل خبز كاسد ..

وعندما شكوت ذلك للبائع قال لي : لم تعد الشام كما كانت !

هززت رأسي وأنا أتراجع عن احتجاجي، فكل شيء تغير إلا حكايات الشام التي تأسرك مثل “فتاة جميلة ضاحكة الوجه تجيد نسج الحكايات وسردها” اسمها شام!!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى