الشام.. الطائفية المستقرة في العهد العثماني
شكل “نظام الملل” العثماني سندا متقدما لإقامة علاقات تعاون مثمر بين المكونات البشرية التي تشكلت منها الهوية العثمانية، من أتراك، وعرب، وبلقانيين، وفرس، وأكراد، وشركس، وأرمن وغيرهم. وقبل أن تدخل السلطنة مرحلة الضعف في القرن التاسع عشر، أسهمت الإصلاحات العثمانية في تطوير مناطق بلاد الشام التي لم تكن القوى البشرية فيها تعيش حالة جهل مطبق، كما يزعم بعض المؤرخين الأوروبيين. وانتشرت فيها تدريجيا مقولات الحرية، والعدالة، والمساواة، والديمقراطية، والليبرالية، والوطنية، إلى جانب العلوم الغربية الحديثة، والطباعة المتطورة.
إن تحليل الجذور العميقة لولادة التيارات السياسية والثقافية في بلاد الشام أواخر العهد العثماني، يتطلب الكثير من الدقة، والموضوعية، والابتعاد عن الكتابات المؤدلجة. وهناك وثائق مهمة نشرها المثقفون المتنورون العرب في بلاد الشام، إبان تلك الحقبة، تظهر دور التعليم العصري في قيام حركة ثقافية جديدة، ودور المثقفين النهضويين في تكوين رأي عام عقلاني من خلال الجامعات، ومدارس الإرساليات، والصحافة، والطباعة، والفنون، وغيرها.
“الطائفية” ظاهرة تاريخية اجتماعية تبلورت عبر ثلاث مراحل متباينة في تاريخ بلاد الشام:
أولا: الطائفية المستقرة في مرحلة “نظام الملل” العثماني، حيث كانت الطقوس والعبادات التي يمارسها سكان الولايات العثمانية في حياتهم اليومية مصونة، وفي حماية السلطة المركزية.
ثانيا: الطائفية المتفجرة التي انتعشت بفضل الدعم الخارجي للعصبيات المحلية، وذلك بهدف تفكيك السلطنة من الداخل، في إطار مشروع استعماري أوروبي قادته بريطانيا وفرنسا.
ثالثا: الطائفية المدمرة تحت تأثير عوامل داخلية وإقليمية وخارجية مساعدة. وعند انفجار النزاع تتحول مناطق بكاملها إلى بؤر للصراع الدموي، تودي بحياة آلاف المواطنين، وتدمر عشرات القرى، وتهجر آلاف الناس، وتتسبب بخراب اقتصادي واجتماعي ونفسي بالغ الخطورة.
الانفجار الدموي
ليست الطائفية –إذن- مجرد محطة عابرة في تاريخ بلاد الشام في ظل السلطنة العثمانية، ولم تولد فجأة في القرن التاسع عشر لتتحول، بفعل عوامل دولية مساعدة، إلى انفجار دموي بلغ ذروته في أحداث 1860 الشهيرة في جبل لبنان، بين الدروز والموارنة. فهناك نماذج كثيرة في أماكن متفرقة من ولايات السلطنة في منطقة البلقان وغيرها.
لم تولد النزاعات الطائفية من فراغ، ولم يكن بالإمكان تحويلها إلى نزاعات دموية تقتل آلاف الناس وتهجر الكثيرين من بيوتهم، لو لم تكن عميقة الجذور في المجتمعات التي كانت خاضعة للسلطنة. كما أن ربط الطائفية بالتنظيمات العثمانية لتحديث بلاد الشام، فيه الكثير من التعسف. فقد كان الصراع مزمنا بين الزعامات المحلية قبل التنظيمات، وأدى إلى تدمير أسر بكاملها، ثم استمر بعدها، وما زال قويا حتى الآن.
إن الدراسة المهمة التي نشرها أسامة المقدسي بعنوان: “ثقافة الطائفية: الطائفة والتاريخ والعنف في لبنان القرن التاسع عشر”. وتضمنت موضوعات عدة عن الدين باعتباره مسرحا للمواجهة الكولونيالية بين الدول الإمبريالية والسطنة العثمانية. وقد حلل الأسباب العميقة لانفجارات (1840 – 1860) في جبل لبنان، والتي شكلت مدخلا لتفجير كثير من العصبيات المحلية، التي أسهمت في تفكيك السلطنة العثمانية من الداخل. لكن عناوين الكتاب تظهر هاجس التنظير الثقافي للمسألة الطائفية على امتداد صفحاته.
لم تكن الطائفية مجرد ظاهرة سياسية تبلورت في إطار مشروع إمبريالي غربي لتفكيك السلطنة العثمانية من الداخل، بل كانت وثيقة الصلة بقوى الإنتاج، وعلاقات الإنتاج، وبالثورات الصناعية والعلمية، وبالاحتكارات الاقتصادية، والكارتلات المالية وغيرها. وتحولت، لأسباب موضوعية، من ظاهرة تاريخية ناجمة عن طقوس العبادات والشعائر الدينية والمذهبية في إطار “نظام الملل” العثماني، إلى عصبية دينية وسياسية وثقافية واجتاعية في القرن التاسع عشر. وتم توظيفها في بلاد الشام في الصراع على السلطة، والتملك، والتحرر من السيطرة العثمانية الطويلة، والتقارب مع نظم الحداثة والمعاصرة التي رسم دومينيك شوفالييه سماتها الأساسية في كتابه المتميز “مجتمع جبل لبنان إبان الثورة الصناعية في أوروبا في النصف الأول من القرن التاسع عشر”.
وهناك منحى آخر لدراسة المسألة الطائفية في العهد العثماني، لا يبالغ دعاته في التركيز على أثر العوامل الخارجية في ولادة الظاهرة الطائفية وتحولها إلى طائفية متفجرة. وتم التركيز على العوامل الداخلية التي أدت إلى بروز تحولات مهمة في مختلف ولايات السلطنة العثمانية، منذ نجاح الثورة الصناعية في أوروبا. وقد حاول بعض السلاطين العثمانيين القيام بإصلاحات في مركز السلطنة وولاياتها، عرفت بمرحلة التنظيمات وما رافقها من خطوط همايونية ذات توجه إصلاحي على النمط الأوروبي.
كثافة التدخلات
لعبت التبدلات الديموغرافية والاقتصادية والاجتماعية الداخلية الدور الأساسي في عملية التحديث، وما أعقبها من حركات إصلاحية طالت جميع ولايات بلاد الشام. وغالبا ما كانت حركات الاحتجاج ترتدي وجها تصادميا؛ نظرا لكثافة التدخلات الدولية التي عجزت السلطنة عن مواجهتها بقمع وإرهاب القوى الداخلية المنتفضة. ومع صدور الخطوط الهمايونية شهدت بلاد الشام تبدلات اقتصادية واجتماعية، رافقها تفتت في الملكيات العقارية الكبيرة بفعل عامل الوراثة، وتملك المؤسسات الدينية وبعض العامة من الفلاحين لكثير من أراضي المقاطعجيين القدامى، بفعل سياسة الإفقار وزيادة الضرائب التي اعتمدها الولاة العثمانيون، لإضعاف الحكام المحليين في بلاد الشام. مما أسهم في ظهور طبقة جديدة من التجار، والصناعيين الجدد، وبخاصة بورجوازية الحرير المناهضة لكبار الملاكين في بلاد الشام. وزاد في حدة الأزمات الداخلية أن الشرائح الاجتماعية الجديدة تبلورت لدى الطوائف المسيحية قبل سواها من الطوائف الأخرى.
اعتمد إيليا حريق منهج التحليل التاريخي المستند إلى التبدلات الداخلية في معالجة التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في جبل لبنان. ويعتبر كتابه: “التحول السياسي في تاريخ لبنان الحديث” من أفضل الدراسات التي عالجت ولادة النظام السياسي اللبناني، وأثر الطائفية في نشأته وتطوره في العهد العثماني. فحلل بدقة التبدلات الداخلية التي شهدتها مناطق بلاد الشام في القرن الثامن عشر، والتي شكلت منطلقا لتغيير سياسي بارز في جبل لبنان ومناطق أخرى من بلاد الشام في القرن التاسع عشر.
وأكد أهمية المقولات النظرية التي أوردتها الباحثة الروسية إيرينا سميليانسكايا في كتابها: “الحركات الفلاحية في لبنان…”. إلا أنها ركزت على أهمية التجارة الخارجية وأثرها على مدن بلاد الشام. فحتى مطلع الأربعينيات من القرن التاسع عشر، كان عدد غير قليل من الفلاحين اللبنانيين لا يزال مستقلا في تعامله مع السوق الداخلية. وهذا يفسر سبب المقاومة الشعبية التي أبداها سكان الجبل ضد الرسوم الجمركية التي فرضتها السلطنة –آنذاك- تحت ضغط الدول الأوروبية. وبعد أن تعممت تلك الرسوم على المدن الساحلية منذ العام 1841، تعززت مكانة بيروت وطرابلس الاقتصادية مع سكان جبل لبنان. فارتبط الجبليون بعلاقات اقتصادية متينة مع تجار بيروت، في حين بدأت مدينة زحلة تلعب دور الوسيط بين سكان جبل لبنان والمناطق الداخلية السورية.
على جانب آخر، ترك كتاب دومينيك شيفاليه “المجتمع في جبل لبنان…” أثرا كبيرا في الدراسات العلمية حول تطور العلاقات بين الطوائف اللبنانية في تلك الحقبة. فقد تبنى المنهج الثقافي الذي يعطي العوامل الحضارية أهمية كبرى لإبراز دور القوى الداخلية في المجتمع اللبناني. وتأثر سكان جبل لبنان كثيرا بالثقافة الغربية، من خلال إبراز دور المدارس المحلية والإرساليات الأجنبية، التي كانت تدرس العلوم العصرية واللغات الأوروبية.
فقد حلل شيفاليه بدقة علاقات السلطة والنفوذ داخل المجتمع اللبناني، وطبيعة المجتمع السياسي اللبناني في تلك الحقبة، والعلاقات التي كانت تربط بين الأعيان في جبل لبنان وباقي سكان بلاد الشام. وأقيمت العلاقات بين أعيان جبل لبنان على أساس مصالح سياسية أكثر منها عائلية. وعند تفجر النزاعات الطائفية بدت تلك العلاقات مرتكزة إلى أسس طائفية، من دون إغفال أهمية العوامل الخارجية، التي كان لها دور ملحوظ في إحداث تعديل جذري في العلاقات السائدة في إمارة جبل لبنان. فكيف تبدت السمات الخاصة للأحداث الطائفية العاصفة، التي شهدها مجتمع جبل لبنان في النصف الأول من القرن التاسع عشر؟.
لا يتسع المجال لإبراز أسباب النزاعات الطائفية في بلاد الشام في القرن التاسع عشر. لذا؛ نكتفي هنا بالإشارة إلى أبرز تجلياتها في جبل لبنان، حيث كانت الأكثر دموية والأكثر ارتباطا بالمخططات الفرنسية والبريطانية للسيطرة على هذه المنطقة.
خلاصة من بحث مسعود ضاهر ‘المسألة الطائفية في السلطنة العثمانية’، ضمن الكتاب 91 (يوليو 2014) ‘المسيحيون في الشرق’ الصادر عن مركز المسبار للدراسات والبحوث- دبي.
ميدل ايست أونلاين