الشرق الأكبر على خط البداية (جميل مطر)

جميل مطر

عندما بدأنا نقرأ عن سوريا، وكان هذا قبل عقود غير قليلة، وجدنا صعوبة فى فهم أمور عديدة، مثل رؤيتها للعالم وموقعها منه، ومثل المساحة التي تحتلها العقيدة، أياً كانت، في نفوس شعبها وعمق التعصب في الدفاع عنها أمام الأغيار . بدت سوريا في الوهلة الأولى لوحة جذابة الأشكال والأشخاص والألوان، ولكن ما أن تدقق النظر ستكتشف غموضاً يتحول بعد قليل إلى غابة من الألغاز . حاولنا في مرحلة أو أخرى من مراحل نمونا الأكاديمي والدبلوماسي صياغة “نظريات صغيرة” وتأليف “قواعد علمية” تبسط لنا سوريا وتساعدنا في فهم هذه اللوحة النادرة . جربنا وجربنا وفشلت معظم تجاربنا فأسقطنا أغلب النظريات والقواعد التي صغناها، إلا واحدة بقيت مع عدد منّا مرشدة في محاولات فهم العقل السياسي في سوريا والتنبؤ بسلوكيات نخبها الحاكمة .
أستطيع بتجاوز معقول تلخيص “نظريتنا الصغيرة” عن دور سوريا في نقطتين . توصلنا، وهي النقطة الأولى من الخلاصة، إلى الاعتقاد أن سوريا رصيد لنفسها وللإقليم الذي تعيش في وسطه إذا نجحت في أن توظف إمكاناتها الجغرافية والعقائدية لصنع ساحة تتنافس على الوجود فيها وتتسابق دول أخرى، إقليمية أو دولية . وتوصلنا، وهي النقطة الثانية من الخلاصة إلى أن سوريا تصبح مصدر خطر شديد على نفسها وعلى الإقليم الذي تعيش في قلبه إذا استقلت بإرادتها ونشطت ومارست دوراً توسعياً وحاولت فرض نفوذها في دول ومناطق محيطة .
بمعنى آخر اقتنعنا، وكنا مجموعة من الباحثين والمحللين السياسيين المهتمين بالشأن الإقليمي، بأن سوريا بشعبها ونخبتها السياسية وطوائفها تعيش آمنة مطمئنة طالما استمر سعي الآخرين للوصول إليها باعتبارها دولة تطرح نفسها ساحة لهم يتسابقون للوجود فيها والاستفادة من أرصدتها المعنوية والناعمة والايديولوجية لدعم تحالفاتهم وزيادة قوتهم الإقليمية والدولية . . كانت سوريا دائماً بالنسبة للدول العربية الأخرى الصوت الأعلى في التعبير عن “أهداف الأمة”، والناطقة باسمها . كان السباق على الوجود في دمشق سياسة ثابتة تمارسها الدول العربية الأكبر والمؤثرة . وبالنسبة للنخبة الحاكمة في سوريا كان هذا السباق فرصة لتحصل لنفسها على ضمانات أمن إضافية ومعونات مالية أوفر واهتمام عالمي أكبر، وحماية معنوية ضد غارات “إسرائيل” واعتداءاتها . استفادت سوريا فائدة عظمى حين استثمرت هذا التنافس الإقليمي على كسب ودها لدعم مسيرة الاندماج الاجتماعي وتعميق الانتماء بهوية “عربية” إقليمية تدفع بها شرور الانقسامات الداخلية وتمنع نشوب صراعات بين الهويات الأولية وهي كثيرة وبعضها تمتد جذوره إلى آلاف السنين .
عاشت سوريا فترات غير قليلة تنعم، ومعها أحياناً “النظام العربي”، بمميزات وإيجابيات ما يمكن تسميته عهود أو أعوام السلام السوري، وقد تحقق هذا “السلام” مرتين على الأقل . تحقق في المرة الأولى كنتيجة للسباق المصري – العراقي على النفوذ في سوريا في أواخر الأربعينات وأوائل الخمسينات . وأستطيع المجازفة بمبالغة بسيطة فأقول إنه ربما لولا هذا السباق لما أمكن لنخبة الاستقلال السورية المحافظة على وحدة أراضيها واستقلالها في وجه “التوسعية الهاشمية” ومن بعدها “التوسعية البعثية” في العراق . تحقق “السلام السوري” مرة ثانية مستفيداً من الحرب الباردة التي نشبت في العالم العربي في الستينات بين فصائل اليمين الديني والفكر المحافظ وفصائل اليسار والقومية، وكانت سوريا الساحة الأهم التي دارت فيها هذه الحرب .
أما سوريا الأخرى، سوريا التي قررت أن تتخلى عن دورها كساحة تصنع فيها التوازنات الإقليمية وتتولى دور الفاعل المستقل الساعي لتغيير سياسات دول أخرى بالتدخل السافر والعنيف أحياناً في شؤونها وتقيم أحلافاً إقليمية تخضع لقيادتها أو على الأقل تساير توجهاتها الخاصة ومصالحها، رأيناها حين خرجت لتتواجه مع العراق خارج أراضيها، سواء في لبنان أو في الأردن أو في دول الخليج . ورأيناها تتجاوز حدود قواها الفعلية فراحت تقود مجموعة من الدول العربية في مواجهة مع مصر . حدث هذا عندما بدأت النخبة الساداتية في مصر تنفذ سياسات الانسحاب والتخلي والنأي، أياً كانت الكلمة المناسبة، بعد حرب أكتوبر. كان السوريون قد حاولوا قبل ذلك وعلى امتداد ثلاث سنوات الاستفادة من التعقيدات التي رافقت تسويات حرب أكتوبر . حاولوا إقناع الرئيس السادات ليشكل مع سوريا جبهة تضغط ضغطاً “جماهيرياً ودبلوماسياً” على الدول النفطية . وعندما فشلت محاولة الانفراد بمصر في مرحلة عصيبة تصدت لإقامة تحالفات ضد مصر وضد العراق . الأمر الجدير بالاهتمام هو ملاحظة أنه بقدر ما كانت سوريا ناجحة في جذب المتنافسين عليها ومستفيدة من التسابق على كسب ودها ومعتبرة نفسها الطرف الذي لا غنى عنه في توازن التحالفات الإقليمية، بقدر ما كانت فاشلة عندما تخلت عن هذا الدور، دور مفتاح التوازن في النظام العربي، لتتولى بنفسها قيادة حلف من دول وفصائل تأتمر بتوصياتها أو تخضع لمشيئتها .
 سوريا المهيمنة على لبنان والمتحكمة في كافة شؤونه، وسوريا المتدخلة في العراق ضد بعث صدام حسين، وسوريا التي قررت أن تلعب دوراً لم تتعود عليه من قبل ودفعت ثمنه غالياً عندما تحالفت مع حزب العمال الكردستاني ضد تركيا، هي سوريا التي اغتالت عشرين ألف مواطن في مدينة حماه، وهو ما لم تفعله منذ الاستقلال في ظل انشغالها واكتفائها بدور اللاعب المكمل، ولكن الحيوي، في نظام التوازنات الإقليمية .
تدفعنا التجربة التاريخية إلى تجديد الاعتقاد بأن تطورات الأزمة السورية الراهنة صارت تدفع بنخبة السياسة في سوريا، حكاما ومعارضين، نحو مفترق فاصل . عند هذا المفترق يتعين على هؤلاء الاتفاق على شكل النظام القادم واضعين في الاعتبار وجود عدد وفير من الدول تحاول كل منها غرس نفوذ لها في دمشق . عادت سوريا ساحة للسباق وهو الأمر الذي يستحق الاستعانة بعبقرية دمشق في الاستفادة من هذا السباق فلا يفرض عليها ما لا يريده أو يتمناه شعب سوريا .
لا يخالجني شك في أننا أمام تطور فريد في شكله وتفاصيله في المواقف بين واشنطن من ناحية وموسكو وبكين من ناحية أخرى . هناك من يعتقد أن مصالح أطراف كثيرة تلتقي على فكرة أن تستمر واشنطن في الضغط بالحصار والدبلوماسية وتمتنع عن تزويد الثوار بالسلاح الثقيل، وتستمر موسكو في تقديم دعم مناسب معقول للنظام الحاكم في سوريا . هكذا تتعب كل الأطراف السورية وتنهك قواها لتكون جاهزة للقبول بتسوية دولية تراعي مصالح الغرب من ناحية وروسيا والصين من ناحية أخرى، وتراعي أيضاً بعض مصالح الأطراف الإقليمية مثل تركيا وإيران ودول في الخليج، فلكل منها دور مطلوب في مرحلة الانتقال .
يتضح يوماً بعد يوم أن معظم مواقف الأطراف الخارجية المشاركة في الأزمة السورية انطلقت من مواقع التضاد الكامل، وهي الآن تنتقل إلى مواقع أقل تصادماً وتضاداً . تبدو الآن هذه الأطراف الإقليمية مستعدة ولأسباب شتى، لتشارك في عملية ضغط على أطراف الصراع في سوريا . سوف تعمل الأطراف الخارجية لتحصل على امتيازات ومواقع أفضل فى سوريا المستقبل التي يجري رسم خطوطها العامة الآن في أجهزة وإدارات دولية وظيفتها التحضير لأوضاع جديدة تفرض على الدول الخارجة لتوها من نزاعات داخلية أو ثورات . أقرب شكل يمكن تصوره هو حالة تشبه نظام وصاية مستتر من المنظمة الدولية، يجرى الآن الإعداد له على قدم وساق، لتلحق سوريا بغيرها من دول الربيع العربي التي يجمع بينها الآن سياسات يعبر أكثرها عن “انصياع” لإرادة المجتمع الدولي ممثلاً في الوجود والنفوذ المتزايد لممثلين عن مؤسسات دولية عريقة في دبلوماسية التدخل في الشؤون الداخلية تحت عنوان بناء الأمم أو غيره من العناوين المبتكرة .
لا أستبعد أن تؤدي التسوية في سوريا على النمط السائد في دول عربية أخرى إلى إعلان نهاية النظام الإقليمي كما عرفناه . نعيش من دون شك مرحلة استكمال الخطوات الأخيرة الضرورية لقيام شرق جديد، شرق أكبر حسب تعبير الزميل جورج سمعان. فباكتمال هذه الخطوات في سوريا يتحقق الحلم بقيام نظام “إقليمي” على أسس جديدة تماماً، تحكمه وتتحكم فيه واشنطن عن طريق سيطرة مباشرة من جانب ممثلين للاستخبارات والدبلوماسيات الغربية ملحقين الآن ببعض المؤسسات الدولية، وعن طريق الاعتماد المتزايد على تعاون وثيق مع نخب الإسلام السياسي، أي مع التيار الصاعد إلى الحكم في كل دول الإقليم الممتد من حدود الصين الغربية إلى شواطئ إفريقيا الغربية .
النظام الإقليمي العربي مدين بنشأته لدمشق، هكذا سيكون الشرق الكبير أو الأكبر إذا تحققت النبوءة وقام .

صحيفة الخليج الإماراتية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى