
قراءة في خريطة التحوّلات المتسارعة وأدوار القوى الإقليمية والدولية
يشهد الشرق الأوسط اليوم واحدة من أكثر المراحل اضطرابًا منذ عقود، مرحلة تختلط فيها التحولات السياسية العميقة بالصراعات العسكرية، وتتقاطع فيها مصالح القوى الدولية والإقليمية مع أحلام الشعوب ومخاوف الأنظمة. فالوضع في سوريا ولبنان وفلسطين والعراق لا يمكن النظر إليه بمعزل عن بعضه، إذ تتشابك هذه الملفات في شبكة واحدة من النفوذ والمصالح والاصطفافات، وتنعكس على كامل الإقليم، من الخليج إلى شمال أفريقيا، ومن شرق المتوسط إلى حدوده الآسيوية.
بدو المنطقة وكأنها تعيش حالة غليان جيواستراتيجي لا يهدأ، فالحروب المعلّقة لم تُحسم، والهدن المؤقتة هشّة، والاقتصاديات في حالة اختناق، والمجتمعات تعيش تحت وطأة الانقسام والإحباط. ومن يتأمل المشهد يرى أن الشرق الأوسط يسير على خطّين متوازيين:
1. سباق محموم لإعادة رسم الخرائط:
القوى الكبرى ،فالولايات المتحدة، روسيا، الصين تتعامل مع المنطقة باعتبارها مركزًا للطاقة والممرات الحيوية والتوازنات الأمنية. ومن هنا يتجدد اهتمامها بتثبيت نفوذها أو إعادة تموضعها.
2. عودة واضحة للقوى الإقليمية:
تركيا، إيران، السعودية، قطر، الإمارات، ومصر تحاول كل منها الدفع باتجاه صياغة دور أكبر لها، سواء عبر النفوذ العسكري المباشر، أو مبادرات الوساطة، أو المشروعات الاقتصادية الكبرى.
هذا التداخل جعل من الشرق الأوسط ساحة معقدة، حيث لا ينتصر فيها الأقوى عسكريًا فقط، بل الأقدر على تشكيل التحالفات والتحكم بمفاصل الاقتصاد والطاقة والممرات البحرية.
فبعد سنوات طويلة من الحرب، لا تزال سوريا مركز الاحتكاك بين القوى الكبرى. فعلى الأرض تتقاطع مصالح روسيا وإيران وتركيا والولايات المتحدة، بينما يعاني السوريون من انهيار اقتصادي واجتماعي غير مسبوق.
ورغم تراجع العمليات الكبرى، لم يُحسم شكل الدولة أو وحدتها أو مستقبل نظامها السياسي. كل طرف ينتظر اللحظة المناسبة لفرض شروطه على طاولة التسوية، فيما تتحول البلاد إلى نموذج صارخ لغياب القرار المحلي وهيمنة الخارج على مسار
أما لبنان، فيعيش واحدة من أعمق الأزمات الاقتصادية والسياسية في تاريخه الحديث. فالبلد أصبح ساحة مفتوحة للصراع بين المشاريع الإقليمية، خاصة بعد توسع نفوذ حزب الله وتداخل الملف اللبناني مع الملفين السوري والإيراني. المؤسسات مشلولة، الاقتصاد مترنّح، والخروج من الأزمة يبدو مشروطًا بتفاهمات خارجية تفوق قدرة الداخل على إنتاجها.
يبقى الملف الفلسطيني بؤرة التوتر المركزية في الشرق الأوسط. فالتصعيد المستمر، وتنامي العنف، وتآكل فرص الحل السياسي، كلها تدفع المنطقة إلى حالة احتقان دائمة. القوى الإقليمية تحاول الاستثمار في هذا الملف لتعزيز أوراقها التفاوضية، بينما تناور القوى الدولية ببطء شديد، فتترك المأساة مفتوحة بلا أفق واضح.
فالعراق يشكل نموذجًا آخر لدول ما بعد الحروب. فرغم استعادة جانب من الاستقرار الأمني، لا تزال الصراعات الداخلية على النفوذ السياسي والاقتصادي مستمرة. كما يبقى البلد ساحة تنافس بين القوى الإقليمية، خاصة إيران وتركيا، إضافة إلى محاولات الولايات المتحدة الحفاظ على وجودها. وفي كل ذلك، تبدو سيادة العراق هشّة أمام تعدد مراكز القوة.
يبقى هنا السؤال :أين هو دور دول المنطقة؟
ويبرز السؤال الجوهري ألا وهو:
هل تمتلك دول المنطقة قرارها الحقيقي؟ أم أنها مجرد منفِّذ لما تقرره القوى الكبرى؟
الواقع يشير إلى مشهد مركّب:
- بعض دول المنطقة تنفذ سياسات وضعتها القوى العظمى، سواء بدافع الحاجة الأمنية أو الاقتصادية أو بفعل الضغوط السياسية.
- دول أخرى تحاول صياغة أجندتها الخاصة، وتدخل في سباق لإقناع القوى الكبرى بأنها شريك لا يمكن تجاوزه.
وهناك دول فقدت القدرة على اتخاذ القرار، فأصبح مصيرها مرتبطًا بالكامل بتفاهمات الدول الأقوى.
وفي كل الأحوال، لم يعد بالإمكان الحديث عن “شرق أوسط مستقل” أو “قرار محلي خالص” في ظل تشابك المصالح الدولية والإقليمية بهذا الشكل غير المسبوق.
والسؤال التالي هو مالذي تريده القوى العظمى وماهي اجندتها ؟
هنا يكمن القول بأن الولايات المتحدة تحاول الحفاظ على نفوذها التاريخي، وتحديدًا في ممرات الطاقة والخليج والبحر الأحمر.
فروسيا تسعى لترسيخ وجودها العسكري والسياسي في سوريا وشرق المتوسط.
والصين تدخل من بوابة الاقتصاد لتصبح لاعبًا رئيسيًا في مشروعات البنى التحتية والطاقة والتجارة.
فكل قوة من هذه القوى تريد أن يكون الشرق الأوسط جزءًا من معادلة نفوذها العالمي، ولا أحد منها مستعد للتخلي عن دوره بسهولة، ما يجعل المنطقة باقية في دائرة التجاذبات.
للأسف وللذكرى والتاريخ فالشعوب هي الغائب الأكبر.
وسط كل هذا، يبقى صاحب الأرض هو الحلقة الأضعف فالشعوب التي لا حول لها ولا قوة، والتي تنتظر تقاطع المصالح الدولية والإقليمية كي ترى بصيص أمل أو انفراج.
والمشاريع الاستعمارية القديمة أعيد إنتاجها بصيغ جديدة: تحالفات، قواعد عسكرية، اتفاقيات طويلة المدى، حضور اقتصادي مُقنّع، ووعود بإعادة الإعمار مشروطة بالولاء السياسي.
المستقبل: إلى أين؟
الشرق الأوسط يقف أمام مفترق طرق تاريخي. فإما أن تستمر لعبة الأمم، ويبقى القرار في يد القوى الخارجية، وتبقى المنطقة ساحة صراعات لا تنتهي، وإما أن تنجح الدول الإقليمية في بناء منظومة تعاون حقيقية تعيد التوازن وتفتح الباب أمام الاستقرار والتنمية.
لكن حتى الآن، يبدو أن المشهد مفتوح على مزيد من التعقيد، وأن أي تسوية كبرى تحتاج إلى توافق دولي غير متوفر، وإرادة سياسية محلية لا تزال ضعيفة أو منقسمة.
بوابة الشرق الأوسط الجديدة



