الشرق الأوسط بعد مئة عام (جيمس زغبي)

 

جيمس زغبي

قبل بضعة أيام، قضيت فترة الظهيرة مع أعضاء وفد المعارضة السورية الذين يزورون واشنطن، وأطلعوني على كثير حول اجتماعاتهم مع إدارة أوباما – بما في ذلك جلسة مطولة مع الرئيس – وأعضاء مجلس الشيوخ والكونغرس. وقد ناقشنا أيضاً المشكلات التي يواجهونها على الأرض في سوريا والقضايا الخاصة باستراتيجية الرسائل التي يوجهونها.
وفي نهاية محادثتنا المستفيضة، أدهشتني أسئلة غير متوقعة، منها: «ما هي رؤيتك الطويلة الأمد للمنطقة من العراق إلى لبنان؟ وكيف تراها في المستقبل؟ وماذا تتوقع أن يحدث لسوريا في غضون الأعوام الثلاثة المقبلة؟». وبالرغم من انني تفاجأت، إلا أنني كنت مسروراً، لأن هذه بالضبط هي الأسئلة التي ينبغي أن توجه وتتم الإجابة عليها من قبل الزعماء على المستويات الحكومية كافة، ومن قبل المجتمع المدني في منطقة الشرق الأوسط.
ومن الأهمية بمكان أن تكون هناك رؤية استراتيجية موسعة للمستقبل تعزز القيم وطموحات الشعوب، ومن المهم أيضاً أن نكون قادرين على توقع مدى إمكانية تطبيق هذه الرؤية على المدى القصير.
وربما ان إجابتي المبدئية كان فيها بعض التوسع في التعبير، إذ قلت: أتصور المنطقة متصالحة مع نفسها وتعيش في سلام، ومجتمعات وأنظمة اقتصادية متكاملة وحدوداً مفتوحة – أو عدم وجود حدود على الإطلاق – ما يسمح بحرية حركة الناس والتجارة. هكذا أرى المنطقة بعد مئة عام.
وفي ضوء الحروب الدامية خلال العقود الماضية الأخيرة والاضطرابات والتوترات المتواصلة، فإن هذه الرؤية ربما تبدو للبعض خيالية، وربما يذهب بعض المتشائمين إلى حد الزعم أن التركيبة الجينية لهذا الطرف أو ذاك لا تقبل أبداً السلام أو التكامل. ولكنني مقتنع بأنهم مخطئون، فلا توجد جماعة من الناس تكره السلام والتكامل، كما أنه لا يوجد أحد يبقى بعيداً عن ضغوط التاريخ الحتمية، ولا تبدو منطقة الشرق الأوسط استثناء من ذلك.
وعلى الرغم من واقع أن المنطقة مبتلاة بالحروب والاضطرابات، إلا أنه ما من منطقة في أنحاء العالم إلا وتعرضت أيضاً للابتلاء ذاته، وقد كان قدر كبير من اليأس ذاته يعم أنحاء أوروبا، وعلى مدار قرون، كانت القارة العجوز موطناً للصراعات الدامية التي فككت الدول والطوائف، وتوجت في القرن العشرين بحربين عالميتين مدمرتين. ومن كان يمكن أن يتصور في خضم أحداث الرعب خلال القرن الماضي أن أوروبا ستصبح في سلام مع نفسها؟
وخلال العقود الماضية، شكلت أوروبا اتحاداً اقتصادياً وأنهت الحرب الباردة التي قسمت القارة، وعلى الرغم من أن الاتحاد «ليس كاملاً» بعد، غير أنه من المستحيل تجاهل التحولات الواضحة والإيجابية التي حدثت ولا تزال تتكشف في أنحاء القارة التي كانت ذات يوم ممزقة.
والمهم في خضم هذا الصراع أن يجد الناس رؤية للمستقبل وإمكانية التغيير، لكي لا يستسلموا لليأس، ومن الممكن أن يلهم وضع هذه الرؤية المجتمعات ويحفزها على المضي قدماً، رافضة الجمود الذي ينشأ عن الشعور بالسجن في براثن «الوقائع الحالية».
ويتضح ذلك بجلاء بتطبيقه على الصراعات الدائرة في أنحاء بلاد الشام، فعلى سبيل المثال، ما هي رؤية بشار الأسد للمستقبل؟ ومن يريد العيش في مستقبل تخطط له «داعش» أو «جبهة النصرة»؟ وهل هناك أي شخص يأمل أن يظل لبنان بعد مائة عام من الآن مقسماً على أساس طائفي وتحتكر السلطة النخب ذاتها التي حكمت المجموعات أو المناطق خلال القرن الماضي؟
وهل هناك أي مستقبل لمفاهيم الاستثنائية أو الاحتلال التي يناصرها إسرائيليون متعصبون؟ وتمكن الرؤية التقدمية للمستقبل من تحدي أولئك الذين لا يفكرون في ما وراء قيود الحاضر القاتلة، وتلفظ من يريدون تجميد الوقائع الحالية من أجل الحصول على السلطة أو امتيازات شخصية، وأولئك الذين جعلتهم انحرافات فهمهم للدين يتصورون المستقبل على أنه العودة إلى الماضي المثالي.
ويعني التفكير في المستقبل ألا نخلق «أوثاناً زائفة» من الماضي أو الحاضر، ويعني أن نفهم أننا بشر، ونخضع لشرائع السماء، ولا نسمح لأنفسنا بأن نكون متغطرسين ونخضع هذه الشرائع لأهوائنا وخيالاتنا. ويتطلب أيضاً أن نرفض استخدام الوسائل التي تتعارض مع الغايات التي نسعى لتحقيقها.
ويقودني ذلك إلى النظر في السؤال الثاني الذي طرحه صديقي السوري، بشأن تصور مستقبل بلاد الشام في غضون السنوات الثلاث المقبلة. وبطرق شتى، تمثل الإجابة على هذا السؤال تحدياً أكثر صعوبة لأنه يجبرنا على مجابهة قيود الحاضر بشكل مباشر.
وفي حين أعتقد أنه بعد مئة عام من الآن لن يكون هناك شخص مثل بشار الأسد في المشهد أو عصبيات «دينية» أو زعماء أو قوميون متطرفون، كتلك الشخصيات التي تميز جوانب الحياة في الوقت الراهن، ولا بد من هزيمتها، ولكن ما يهم هو كيفية تحقيق هذه الهزيمة، وهذا هو سبب أهمية الرؤية المستقبلية التي تعتمد على القيم. ولن تجدي محاربة الشر بالشر والقمع بالقمع والتعصب بالتعصب، ومن الضروري ابتكار أفكار جديدة وكذلك وسائل مبتكرة لتطبيق هذه الأفكار في جوانب الحياة.
وأشكر صديقي السوري على طرح أسئلته المهمة والمناقشة التي تلتها، التي منحتنا فرصة تسليط الضوء على الوسائل والغايات والأهداف. وجعلتني هذه الأسئلة التي طرحها أقدر قيادته، وأود أن أسمع أن هذا التحدي يواجهه أيضاً القادة الآخرون، على كل المستويات، في أنحاء بلاد الشام، وأتصور أن إجاباتهم على مثل هذه الأسئلة ستكشف كثيراً من الأمور المهمة لكسب رهان المستقبل.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى