الشرق الأوسط عام 1958: وثيقة عن الزمن الثوريّ
يأخذ «الشرق الأوسط عام 1958: إعادة تخيّل عام ثوري» (منشورات بلومسبيري 2020) القراء إلى زمن ثوري لم يعايشه معظم القراء، لكنه مهم للغاية لأنه وثيقة علمية لأحداث الزمن الثوري الذي شهده المشرق العربي ومغربه وثواره وثوراته. لذلك ليس من المستغرب أنه «مُهدى إلى كل الثوار الذين قاتلوا بشجاعة ضد الظلم والوحشية، وأولئك الذين ما زالوا يجرؤون على إعادة تخيل العالم وخلقه»، والسبب: اعتراف واقعي بالنضالات الثورية والدعوات للتغيير والإصلاح في «الشرق الأوسط» في العقود الماضية وفي النصف الثاني من عام 2019.
لأن أحداث ذلك العام، وما قبله وما تلاه كانت ذات تأثير كبير في الإقليم، وعالمياً إلى حد ما، فمن الطبيعي أن يتشارك في كتابه علماء عديدون من مختلف التخصّصات ومن دول مختلفة، وإن كنا نود لو أن بحاثة عرباً أكثر شاركوا فيه.
لا شك في أن عام 1958 كان إحدى أهم اللحظات في الشرق الأوسط (بل قل: شرقي المتوسط) من النهضة إلى الانتفاضات العربية في عامَي 2010-2011، إذ أحدث موجة من الاحتجاجات في المنطقة التي اندلعت في عام 2019. كان تأميم مصر لشركة قناة السويس والأزمة التي تلت ذلك عام 1956، خلفية لإنشاء الجمهورية العربية المتحدة باندماج سوريا ومصر في دولة واحدة في مطلع شهر شباط (فبراير) عام 1958 والتي عُدت بمثابة الخطوة الأولى نحو وحدة عربية أكبر. لقد كان لتداعيات تلك الوحدة تأثير في دول «الشرق الأوسط» وحتى في خارج الإقليم تجلّى على نحو واضح في ثلاث دول عربية: أولاً: تحول الأزمة السياسية/ الاجتماعية/ المعيشية في لبنان إلى حرب أهلية (مصغرة – ز م) بين أيار وتموز من ذلك العام. ثانياً: محاولة الضباط الأحرار في الجيش الأردني الانقلاب في حزيران/ تموز على نظام الملك حسين الكاريكاتوري العميل لواشنطن وتل أبيب. ثالثاً: تحول الانقلاب العسكري في العراق في 14 تموز 1958 إلى ثورة أنهت النظام الملكي هناك المرتبط أيضاً بالاستعمار البريطاني.
لنلقِ الآن نظرة على محتوى المؤلف، لكن باختصار، لنرى مداه ومن بعد ننتقل إلى المصاعب التي واجهت المحرر في تغطية أحداث المرحلة وكيف تسنّى له تجاوزها، علمياً. يبدأ المؤلف بتصدير بقلم سليم يعقوب من جامعة كاليفورنيا. الفصل الأول: إعادة تخيّل عام 1958 من خلال عدسات المصادر المتعددة اللغات ووجهات النظر المتعددة التخصصات. بعدها يبدأ تقسيمه إلى ثلاثة أجزاء على النحو الآتي:
1) السياق الإقليمي والدولي لعام 1958: القوى المتراجعة والصاعدة في «الشرق الأوسط» ويضم أربعة فصول.
2) التنافس والتحالفات بين الدول العربية وغير العربية: ديناميات أقلمة الحرب الباردة› ويضم أيضاً أربعة فصول.
3) ربط المحلي بالعالم: الثورات والحروب والانقلابات في «الشرق الأوسط» ويحوي ستة فصول آخرها: تأملات واستنتاجات من العام الثوري 1958.
محرر المؤلف قال إن خطته لتحريره نتاج ثلاثة عوامل أولها يتعلق بواقع أنه كان يُجري فيه بحثاً عن أطروحة الدكتوراه في مواقع أرشيفية مختلفة ومكتبات في الولايات المتحدة وبريطانيا ما أتاح له الاتصال بعلماء سياسة ومؤرخين مختلفين شاركوا في تقدير مشترك لتعقيدات الأحداث في عام 1958، والحاجة إلى دراسة عدد من الحالات المهملة، إضافة إلى استكشاف السجلات والاعتماد عليها والمصادر التي لم يتم تحليلها بالكامل.
العامل الثاني ركّز على سعيه للبناء على الأبحاث المتوافرة وتناول دور الجهات الفاعلة غير العربية في المنطقة، بما في ذلك إيران وتركيا، ودول عربية أخرى وتجاربها. هذا يعكس في رأي المحرر الحاجة البحثية إلى معالجة الطبيعة المجزّأة لدراسة العام الثوري 1958 من خلال الجمع بين الباحثين الذين يبحثون في السياق الأوسع للأحداث الحرجة في بداية الحرب الباردة في الشرق الأوسط ويكتبون عنه. خطته كانت إنتاج مؤلف يتجاوز التقليد الزمني لسنة معينة ليشمل سياقات ما قبل عام 1958 وما بعده، وبالتالي دراسة سلسلة من الأحداث المهمة في عواصم مختلفة في «الشرق الأوسط» وأخرى خارج المنطقة من مجموعة واسعة من التخصّصات اللغوية والجغرافية والتاريخية والأكاديمية، وهو العامل الثالث.
هذا يعني، والكلام للمحرر، من خلال دراسة متعددة التخصصات للأحداث التحولية قبل عام 1958 وبعده، يجيب المؤلف عن سؤال واحد واسع: إلى أي مدى كانت أحداث عام 1958 ثورية وتغييرية لدول الشرق الأوسط وخارجه؟ وإذا اعتبرنا تلك السنة «ثورية»، فكيف يمكن لدراسة عام 1958 أن تعزز فهم اللحظات الثورية في الجنوب العالمي على نحو عام و«الشرق الأوسط» على وجه التخصيص؟
إلى جانب السؤال الأوسع الذي يحفّز هذا المؤلف، تتناول الفصول العديد من القضايا، بما في ذلك: تصورات مصر وسوريا للجمهورية العربية المتحدة والدوافع الداخلية للاندماج في دولة واحدة؛ مدى تأثر دول مطلة على الخليج الفارسي مثل إيران والمملكة السعودية بالأزمات والأحداث المختلفة في العراق ولبنان والأردن؛ استراتيجيات وإجراءات التأقلم البريطانية مع صعود الولايات المتحدة في المنطقة؛ الروابط بين حرب الاستقلال الجزائرية وانهيار الجمهورية الرابعة في فرنسا؛ قدرة تركيا والأردن على الصمود في وجه الموجة الثورية في ذلك الوقت؛ نجاح الانقلاب العسكري في العراق وفشل محاولات الانقلابات المختلفة في الأردن؛ دخول القوات الأميركية إلى لبنان وإشراك قوّة عظمى في أزمة سياسية داخلية؛ وتركيز على التنافس بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي في المنطقة وعلى أصوات الحركات السياسية داخل الاتحاد السوفياتي.
مؤلف مهم يوضح أنّ ثمة الكثير من النشاطات الثورية والنجاحات في ماضينا القريب والتي يمكن البناء عليها لتحقيق التحول المطلوب في المنطقة والتحرر على نحو كامل من آثار الاستعمار والاستعمار الخفي (informal empire).
كما يذكّرنا هذا المؤلف بأهمية توعية الأجيال الجديدة بمواضينا الثورية وبالثوار والمناضلين الذين عانوا ما عانوه من تعذيب وظلم وسجن وكذلك الذين قدموا حيواتهم من أجل مستقبل أفضل لأولادهم ولشعوبهم. هذا مهم في ضوء أن أنظمة عربية تعمل على طمس ذلك الماضي النضالي وإيهام الغير، والكذب على النفس، بأن التاريخ يبدأ بها، وبها فقط.
صحيفة الأخبار اللبنانية