الشرق المجنون والشرق الحضاريّ

سمير العيطة –

عندما قامت الثورة الإيرانية ضدّ استبداد حكم الشاه، ارتكب المستبدّ الآخر صدّام حسين جرماً تجاه كافّة شعوب المنطقة بغزوه إيران. هكذا رجّح، هو والقوى التي ساندته في تلك الحرب، كفّة الجناح الأكثر تطرّفاً في النظام الإيراني الجديد، وكلّفوا شعبي إيران والعراق ملايين القتلى والجرحى، وأضعفوا الدولة العراقية بشكلٍ مستدام. الأنكى من ذلك كلّه أنّهم قلبوا الصراع الرئيس في المنطقة من صراع عربي ـ إسرائيليّ، موضوعه اغتصاب فلسطين وحقوق شعبها، إلى صراعٍ عبثيّ بين السنّة والشيعة. بل لا يفيد سوى إسرائيل ومنطقها في الدول الطائفيّة. وها نحن نعيش اليوم تداعيات تلك الجريمة الكبيرة. تنظيمٌ متطرّف ينوي إقامة «دولة إسلاميّة في العراق والشام» يستولي بسرعة خاطفة على مدنٍ كبيرة في العراق، بينها الموصل، وفي الحقيقة يستولي على أغلب المحافظات السنيّة، ويدقّ أبواب بغداد، بعد أن استولى على مناطق شاسعة في الجزيرة السوريّة حتّى حلب. هذا التطوّر الهام والمخيف يعيد إلى الذاكرة على صعيد المنطقة هجمات حركات «طالبان» التي كانت تتكرّر كلّ ربيع في أفغانستان. إنما لا بدّ من الإشارة إلى حقائق عديدة، فهذا ما كان له أن يحدث من دون تعاطف جزء كبير من سكّان المناطق المعنيّة من عشائر وغيرها مع المهاجمين. ولم يكن لقوّات الجيش العراقي أن تنهار بهذه السرعة من دون تواطؤ واضح. كما لم يكن لهذا التنظيم أن ينشأ ويترعرع بهذه الطريقة دون دعمٍ خارجيّ. ولكن ممّن؟ ولماذا؟ مهما كانت المآخذ على القوميّة العربيّة، شكّلت فلسطين محور اهتمام العالم العربي، لا لأنّها أرض الإسلام بامتياز فحسب، بل لأنّها أرض جميع الأديان السماوية، وليست أرض معتقد بعينه، لا اليهود ولا غيرهم. هكذا التقت جميع القلوب حول رفض الظلم الذي ألمّ بالفلسطينيين. وكان يُمكن لتلك المشاعر أن تتطوّر وتنفتح أكثر لو أنّ الظلم أزيل وقامت دولة واحدة تضمّ جميع من يسكن على أرض فلسطين مهما كان معتقده. أمّا مشاعر التطرّف المبنيّة على نزعات مذهبيّة وعرقيّة ضيّقة، المتواجدة أصلاً في بلادنا ولكن في نطاقات ضيّقة جداً، فكان لها أن تتطوّر بعد أن أطلقت الحرب العراقية ـ الإيرانية لها العنان. لقد تطوّرت ضغائن خلال انتفاضة شمال العراق ثمّ جنوبه ضدّ الاستبداد، ثمّ أثناء الغزو الأميركي للعراق ممّا أدّى إلى أوّل هجرات سكّانيّة كبرى على أسس مذهبيّة وعرقيّة. ثمّ أتى دور سوريا، بلد الإسلام الوسطيّ، بعد أن تحوّلت ثورة الشعب إلى حربٍ بين أبنائه، من جرّاء سياسات نظامه ولكن أيضاً بسبب تلك الدول نفسها التي دعمت نظام المستبدّ صدّام حسين. دعاة ومحطات تلفزة وأموال تبعث وتنمّي الكراهية بين أبناء الوطن الواحد. اتّهمت بعض أطياف المعارضة السوريّة تنظيم «داعش» بأنّه مسيّر من قبل النظام السوري وعميل له، من دون أن تزعج نفسها بتفسير كيف يكون هذا الأمر. في الوقت نفسه يستهدف «داعش»، تحديداً عبر فكره وعمليّاته النظام العراقي الحالي الذي يلومه على طائفيّته، والمفترض أنّ هذا النظام حليف للنظام السوريّ. نسي أهل الشرق أن شرقهم معقّد، وأنّ قاعدة عدوّ عدويّ هو حليفي تعمل بأقصى فاعليّة وبشكلٍ أعمى، وإن بشكلٍ موقّت. ثمّ انّ التنظيمات المتطرّفة وإن كانت لها أرضيّة محليّة وأسباب اجتماعية واقتصادية، هناك من ينمّيها ويرى فيها حليفاً رئيساً، لأنّها تقوّض ما يمثّله مشروع الربيع العربي، الرامي إلى الانتهاء من الاستبداد وإقامة دولة المساواة في المواطنة والحريّات. قدر من بقي يدافع عن ذاك الحلم أن يناضل على جبهتين معاً، وأن يخرج من منطق الشرق المجنون القائم، والعودة إلى الشرق الحضاريّ. الاستبداد والتطرّف عدوّان حتّى لو تقاتلا معاً، ولا يمكن الاعتماد على أحدهما في مواجهة الآخر. صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى