الشعب والشعبوية
ما الذي يجمع بين مارين لوبان زعيمة حزب الجبهة الوطنية اليميني المتطرف وبين جان لوك ميلانشون زعيم حزب جبهة اليسار اليساري المتطرف، وكلاهما يوصم بالشعبوية؟ لا شيء سوى أنهما يتحدثان باسم الشعب ويزعمان تمثيله مثلما يزعمان الثورة على المنظومة السائدة والتنديد بالنخبة دفاعا عن الشعب هذا الكيان الأسطوري الذي لا تقول عنه المعاجم أكثر من كونه «مجموعة من البشر يعيشون في مجتمع، ويسكنون أرضا محددة، ويشتركون في عدد من التقاليد والمؤسسات».
فمنذ تأزّم الاقتصاد العالمي واستفحال البطالة وتفاقم التفاوت بين الشعوب، وحتى بين طبقات المجتمع في البلد الواحد، وانتشار بؤر التوتر التي دفعت الناس إلى الهجرة بحثا عن مأمن اختلت أوضاع الطبقات الفقيرة والمتوسطة فاستغلها سياسيون لغايات انتخابية، فأعلنوا تمردهم على النظام القائم ليحولوا لصالحهم تيمة صراع الطبقات الماركسية القديمة، ولا يستثنى من ذلك حتى الملياردير دونالد ترامب.
وخطر هذا الخطاب ليس في مجانبته الحقيقة فحسب بل في استعدائه الطرف المقابل، فما دامت لقائله قناعة بأنه هو الذي يمثل الشعب فإن الذين يعارضونه هم بالضرورة «أعداء الشعب»، تماما كنظرة الإخوان إلى المجتمعات العربية يكفّرون على ضوئها من ليس على شاكلتهم.
وإذا ما استقرّت صورة الأعداء في الأذهان صار القضاء عليهم من قبيل العمل الصالح الذي يعود على المجتمع بالنفع العميم، ولا نستغرب عندئذ أن يتلقى الصحافيون في فرنسا وأميركا تهديدات بالقتل. ذلك أن لوبان وترامب ولافارج لم يكتفوا بإدانة النخب بل تعدّوها إلى التهجم على أعمدة دولة القانون، قضاة وموظفين، وعلى رجال الإعلام، وشهّروا بهم على رؤوس الملأ، وجعلوهم رأس الفساد.
فترامب مثلا لا يتورع عن نعت الصحافة بـ»عدوّة الشعب»، تلك العبارة التي كانت ترد على ألسنة طغاة القرن الماضي، هتلر وموسوليني وستالين وماو تسي تونغ، وتقود من ألصِقت به إلى المشانق والمحارق أو المعتقلات والمنافي في أحسن الأحوال.
أي أن المسألة في النهاية لا تتعدى الصراع على السلطة، وهو صراع يحاول فيه كل طرف أن يستميل كتلة انتخابية يوهم بأنها الشعب ويستعدي في الظاهر النخبة وكأن النخبة تنتمي إلى شعب مجاور.
ثم ما الفرق بين الشعب والنخبة؟ ما هي المرجعية الاقتصادية التي تحدد كليهما؟ أيّ دخل يلزم كي ينتقل واحد من عامة الشعب إلى فئة النخبة؟ وهل يكفي إثراؤه للخروج من فئة الشعب والانضمام إلى فئة النخبة؟ وهل يعود إليها إذا ما أفلس أو تدنّى كسبه؟
في مقالة له بجريدة الـ»غارديان» في أكتوبر 2016 ينفي دفيد رانسيمان أستاذ العلوم السياسية بجامعة كمبريدج أن يكون المستوى الاقتصادي هو الحدّ الفاصل بين الفريقين، فالذين صوتوا لترامب أغلبهم من رجال الأعمال والمقاولين، والبركسيت ما كان ليتحقق لولا أصوات المتقاعدين الأثرياء في جنوب إنكلترا.
وفي رأيه أن ما يفصل الناخبين هو مستوى التعليم، ما سوف يضع المجتمعات الغربية أمام مشكلين اثنين: أولهما أن الأقل تعلّما يعتقدون أن قيادتهم ستؤول إلى نخبة متنفجة تجهل عنهم كل شيء. وأصحاب الشهائد سيخشون أن يقرر مستقبلَهم جهلة لا يعرفون كيف يسير العالم. وهذا في تقديره أخطر من الصدع القائم بين أغنياء وفقراء.
في كتابهما «الشعوب والشعبوية» يؤكد فلوران غينار وكاترين كوليو تيلين أن الشعبوية تلك اللفظة التي تجسّد بمفردها الجزع الديمقراطي الراهن تستعمل في الاتجاهين، فهي من جهة تساق في معنى الديماغوجية للشك في جدية الداعين إلى القطع مع النظام السياسي والاقتصادي الحالي، ومن جهة أخرى تُرفع لواءً للدفاع عن شعب حقيقي استولت على سيادته نخبٌ فاسدة معزولة عن الواقع. فهل الشعبوية حقيقةُ نظامٍ ديمقراطي لم يمنح الشعب سمة سياسية؟ هل هو التعبير المعاصر بأن «الديموس» خيالي وأنه لم يوجد إطلاقا كما يعتقد أعداء الديمقراطية؟
أما بيير روزانفالون أستاذ التاريخ المعاصر والحديث بالكولاج دو فرانس فيلاحظ أن البون بين الديمقراطية كمبدأ والديمقراطية كواقع ملموس قد بلغ اليوم أقصاه، فليس الشعب هو الذي يمارس السلطة بل الخبراء، لأن الشعب في نظر هؤلاء غيرُ مسؤول وغيرُ عقلاني وعاجزٌ عن بلوغ درجة التعميم التي تقتضيها السيادة. والمفارقة أن الشعبوية تلك العبارة التي توصم بالسلبية مشتقة مما يؤسس إيجابيا لحياة ديمقراطية، أي الشعب. فالجميع ينبذ الشعبوية ولكنه يمجّد مبدأ سيادة الشعب. فما الذي تخفيه تلك المفارقة؟
للإجابة عن هذا السؤال يقول روزانفالون ينبغي الانطلاق من أن الشعب، رغم كونه المبدأ الفاعل في النظام الديمقراطي، هو قوة غير محددة، إذ ثمة فارق بين حقيقة المبدأ، أي سيادة الشعب، والطبيعة الإشكالية لهذا الشعب بوصفه فاعلا.
هل النظام النيابي موجود لأن التمثيل المباشر غير ممكن في مجتمع عريض؟ أم أن المنظومة النيابية تجد ميزاتها الخاصة في ضرورة التصريح والتعبير العلني؟ من هنا ينبغي الانطلاق لفهم العلاقات الملتبسة بين المرجعية الإيجابية للشعب واستعمال مفهوم الشعبوية باستنقاص وسخرية. الشعب ليس مبدأ مسيّرا فحسب بل هو أيضا مادة وشكل اجتماعي للديمقراطية. هو صورة المشترك وشكل مجتمع المتساوِين. ولكن الملاحظ اليوم أن الشعب في أزمة.
من جهة ثمة أزمة خاصة بالتمثيل النيابي، ومن جهة أخرى لم يعد المجتمع يشكل لحمة، بل صار مفتّتا بسبب التفاوت. يمكن أن نقول عن الشعبوية ما قاله ماركس عن الدين، عرَض شدّةٍ حقيقية وتعبير عن وهم، فهي نقطة التقاء الخيبة السياسية الناجمة عن سوء التمثيل النيابي ومساوي النظام الديمقراطي، وعدم حلّ المشكلة الاجتماعية اليوم.
وفي رأيه أن الشعبوية هي شكل من أشكال الإجابة التبسيطية والمنحرفة لتلك الصعوبات، ولذلك لا ينبغي أن نقاربها فقط كأسلوب سياسي، كما يعتقد بعض من يحصرونها في بعدها الديماغوجي. أن نفهم الشعبوية معناه أن نفهم بشكل أفضل الديمقراطية بمخاطر تحريفها ومصادرتها والتباساتها وعدم نجوزها. وألا نقنع برفض بافلوفي آلي لنجعل من الشعبوية فزاعة لا تقوم على سند لأنها من المشاكل الكامنة في الديمقراطية.
ويعتقد روزانفالون أن مذاهب مجمل الأحزاب المعنية تستند إلى تبسيط ثلاثي: أولها تبسيط سياسي واجتماعي يتمثل في اعتبار الشعب موضوعا قائم الذات يحدَّد فقط باختلافه مع النخبة وكأن الشعب هو الجزء «السليم» والموحَّد لمجتمع نفض يديه من النخب والطبقة الحاكمة. صحيح أننا نعيش في مجتمعات تتميز بتنامٍ متزايد للتفاوت ولكن وجود أوليغارشيا وانشقاق الأغنياء ليسا كافيين لجعل الشعب كتلة موحدة.
ثانيا اعتبار المنظومة التمثيلية والديمقراطية بصورة عامة فاسدة بنيويا بسبب السياسيين وأن شكل الديمقراطية الحق والوحيد هو العودة إلى الشعب، أي الاستفتاء. ثالثا تبسيط في تصور الرباط الاجتماعي ويتمثّل في الاعتقاد بأن ما يحقق انسجام مجتمع ما هو هويته وليس الكيفية التي تسم العلاقات الاجتماعية داخليا. فالهوية عادة ما تحدَّد سلبيا بالتنديد بمن ينبغي نبذهم، وهم في أوروبا بعامة، وفرنسا بخاصة، المهاجرون أو المسلمون.
إذا أقررنا بأن الشعبوية تقوم على هذا التبسيط الثلاثي، يقول روزانفالون، فإن تجاوز الانحراف الشعبوي يقتضي التفكير في كيفية تحقيق الديمقراطية بشكل أفضل. لا أحد يدّعي أن بإمكانه مقاومة الشعبوية أو صدّها وهو يكتفي بالدفاع عن الديمقراطية كما هي اليوم. لنقد الشعبوية ينبغي امتلاك مشروع إعادة ابتكار الديمقراطية وإعادة تشكيلها.
ولسائل أن يسأل عندئذ: ألا يكون القرن الحادي والعشرون عصر الشعبويات كما كان القرن الماضي قرن التوتاليتاريات؟ ألا تكون الشعبوية مرضا تاريخيا جديدا للديمقراطية، مع مخاطر استعمال هذا المفهوم ذات الدلائل غير المحددة؟
مجلة الجديد اللندنية