الشعور المتخصص بقهر القُبح
من المفاهيم الشعرية التي أسس لها وبنى عليها (إليوت) أن يكون الإيحاء العاطفي خصماً للتركيب المنطقي، ولاشك بأن الخيال الذي يعول عليه هو الخيال غير المشكوك فيه والذي يمثل في تقديره الخيال المنطقي الشبيه بالمدركات العقلية، وقد أراد بذلك أن يعبر عن فكرته نحو مسميات كثيرة منها جنوح الخيال.
وفي تنظير أخر وهو تنظيرٌ مغايرٌ عما أوردنا، يرى إليوت ضرورة البحث والوصول إلى الشيء الزائد عن ذاته ومفهوم الزيادة هنا ليست مفهوما سلبيا بمعنى تشذيب وإهمال ما تخلفه اللغة أثناء عملية الخلق من مفردات غير صالحة للإستخدام بسبب عدم ملائمة الفكرة مع مجريات الحدث المسترسل، وأنما الشيء الزائد هو ذلك الذي لم يتم الوصول إليه وهو مستكشف بالأصل ولكن طبيعة الانفعال النفسي وعدم تقدير اللحظة الحرجة وعدم بلوغ العناصر الثابته في العمل الشعري عوامل إستثنائية تؤدي الى تخفي المستكشف وعدم انتظام دوره ضمن الخط المرسوم له في النص.
يحقق إليوت فهما لإشاراته كي يكون قادرا على دراسة حركاته الإنتقالية وهو يعيد عملية التأمل ضمن مفهومه للمفارقة الجزئية وتهيئة الزخم الجديد لبناء لغة جديدة لتستطيع هذه اللغة – وضمن تنوعها الدلالي – في كشف الإيحاءات والملابسات لتكوين ذاكرة منفصلة لذاكرة النص الشعري الجديد، أي يكون عمل المخيلة ضمن الموجودات التي يراها إليوت مناسبة لإنجاز ما يريد.
وأعتقد أن فلسفة الشعر تجيب عن كم من الإشكالات بهذا الخصوص، أي ما يتعلق بوظيفة اللغة وعمل المخيلة وأوجه نشاطها في تحميلها لنصها الشعري، وتجيب كذلك عن فائدة الشعر ضمن مفهوم إليوت وهل تخلق هذه الآراء صعوبة في فهم الشعر ضمن تغير المجتمع مثلا، ضمن تغير توجهات الشاعر مثلا، ضمن تغير لموجوداته لبلوغ الصورة الشعرية التي تجمع في غير توازن موضوعي (الفكر – العاطفة – اللحظة الزمنية).
إن الصورة تبدو قبل إنتاجها صورة تقليدية ولكنها عندما تؤخذ ضمن تقدير الشاعر لوظيفتها في النص، فإنها تأخذ التركيب التأليفي ليكون لها معنى آخر للحكم عليها ضمن مدلولها وهذا يعني أن الغاية ليست الوصول بها إلى مجرد صور محسوسة فما يستلزم وما يفترض وما يتطلب هي مجالات للبناء ضمن أهبة العقل الباطني ودوره في دعم القوى المفجرة لتوتير أعلى للمشاعر والأفكار:
الضباب الأصفر يمسح ظهره فوق ألواح النوافذ
ويلصق لسانه في زوايا المساء
ويطيل الوقوف عند البرك التي تركد في المجاري
ويدع السناج المتساقط من المداخن
يسقط فوق ظهره
إنزلقَ على جانب الشرفة
ووثب وثبة مفاجئة
وحين رأى أنها ليلة
من ليالي تشرين الناعمة
تطوى حول البيت
وأستسلم للنوم
لقد عالج إليوت من ضمن معالجاته “مفهوم العبث والفوضى” ومثلما أعتقد بالخيال، إعتقد بالوعي، ولا شك بأن خلق التوازنات يستدعي ذلك بطرق موضوعية وغير بائسة وتلك من ضروريات إليوت الذي يجد في الحس المشترك معيارا لتقييم الجانب الجمالي الذي يكمن به الشعور الخاص الشعور المتخصص بقهر القبح في اللغة وإخفاء ما فيها من الأزمنة والأمكنة الضارة.
ميدل ايست أونلاين