الشقاء السوري والتريث الروسي

لم يستيقظ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فجأة ويقرر أن الوقت حان لاستبدال الصاروخ بالحوار، وتقليص عديد قواته في سوريا. وهو بالتأكيد لم يتخذ قراره بعدما شاهد لقطات مصورة للملك السعودي سلمان يحيطه عدد من الرؤساء والمشايخ والامراء، فارتعدت فرائصه لرؤيتهم يتابعون مناورات «رعد الشمال» في صحراء حفر الباطن. المناورات ربما أخافته، لكن ليس الى حد الاذعان فوراً الى المطلب السعودي بوقف التدخل الروسي في سوريا. ولا يبدو أن القيصر قد نال تنازلاً أميركياً أوروبياً ما في أوكرانيا، ليسدد ثمنه من حسابه الجاري في حميميم واللاذقية.

كل انسحاب لقوة أجنبية من أرض عربية مرحب به. السيادة لا تتجزأ ولو كانت العلاقات بين الدولتين ممتازة، والمصالح واحدة، والعدو مشترك. يكفي ألا تكون العلاقة متكافئة حتى تكثر الظنون، ولكن الضرورات تبيح المحظورات. ومع ذلك يبقى السؤال عن القرار الروسي بالانسحاب بمثابة سؤال استنكاري. في طبيعة السياسة الدولية لا تحدث الامور هكذا. عندما ترسل دولة كبرى صفوة عسكرييها، وأحدث ترساناتها الى ساحة معركة، لا تسحبها إلا لأمرين: النصر أو الهزيمة!

في المسألة الروسية – السورية القصة مختلفة. هذا هو الانسحاب العسكري الاول من نوعه الذي يرحب به الجميع من المعارضة المسلحة الى المعارضة المدنية الى النظام. أمر يدعو للريبة اكثر مما يوحي بالاطمئنان الى المسار السلمي للازمة السورية. فمسار محادثات جنيف لم يكتسب بعد صفة البشير بنهاية سعيدة. كان في أفضل التوقعات بداية عملية تفاوضية تستغرق وقتاً. الخرق السلمي جاء من الميدان لا من قاعة المحادثات السويسرية. المعارك والديبلوماسية وجهان لعملة واحدة، لا حرب من دون سفراء ومبعوثين ووزراء خارجية. والحرب اكثر جدية من أن تترك للجنرالات وحدهم بحسب ما كان يردد رئيس وزراء فرنسا خلال الحرب العالمية الثانية جورج كليمنصو. وأحيانا تنتصر السياسة من دون إطلاق رصاصة واحدة. بطبيعة الحال لا تتحقق الاهداف العسكرية في الميدان من دون سياسات واضحة: «الديبلوماسية هي مواصلة الحرب.. ولكن بوسائل مختلفة».

عندما دخلت الطائرات الروسية الحرب فبل خمسة أشهر كانت دمشق شبه محاصرة وسوريا مقطعة. حينها حددت موسكو أهداف تدخلها بحماية النظام، وجعله في موقع يمكنه التفاوض منه. والاهم الحفاظ على سوريا ومؤسساتها واحدة موحدة ذات طابع علماني تعددي.

من الصعب القول إن القوات الروسية حققت أهدافها كاملة، ولو حققت انجازاً غير متوقع، تمثل بجلب الولايات المتحدة كشريك لا لبس فيه في الحرب ضد الارهاب. هنا التنسيق الأميركي – الروسي لا يحتاج لكثرة وصف.

اللاحسم العسكري، واستمرار الفلتان الحدودي حول سوريا، لا ينبئان إلا بإطالة عمر الازمة والشقاء السوريين. ويبدو أن موسكو وتحسباً لتراجع هيبتها العسكرية التي أعادتها بقوة الى المسرح الدولي الواسع من البوابة السورية، لا تستطيع الاستمرار في التعبئة داخل الميدان لفترة طويلة من دون حسم عسكري بائن. لذا من الافضل الانسحاب «الإعلامي» المحدود، مع الحفاظ على الوجود الاستراتيجي، بانتظار بلورة شكل الادارة الاميركية الجديدة التي قد تنقلب على الانتصارات الروسية، وربما تتنصل من تفاهمات الاشهر الاخيرة في عهد باراك اوباما. إلى ذلك الحين روسيا مرتاحة لعظمتها.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى