الصراع الطبقي بدأ منذ… «العهد الجديد»

 

أتاح لي عملي في مخطوطة الأستذة في كلية اللاهوت في «جامعة همبدلت» في ألمانيا الشرقية، بإشراف أستاذي ومدرس العبرية فيها الراحل كارل-هاينز برنهاردت، فرصة الدخول في حوارات عديدة مع أساتذة اللاهوت هناك، ومعرفة مواقفهم من الطبقات والنظام الرأسمالي والمقولات الماركسية بخصوص الصراع الطبقي، وأن تاريخ البشرية هو تاريخ صراع الطبقات. أحاديثنا كانت تجري في ظل نظام شيوعي، لكننا لم نكن على استعداد لخوض نقاشات بيزنطية أيديولوجية، لكني لاحظت تعاطفاً لدى العديد منهم مع الاشتراكية، لكن ليس مع النظام الشيوعي، ومع لاهوت التحرر في أميركا اللاتينية. موضوع تخصصي كان جوانب من العهد القديم وليس العهد الجديد، ما منعنا أيضاً من تعميق الحوارات. كتاب «الصراع الطبقي في العهد الجديد» الذي حرره روبرت مايلز، الأستاذ النيوزيلندي لمادة العهد الجديد في «جامعة أوكلاند»، يطرح نفس المسألة المتعلقة بموقف الأناجيل ومجمل الأسفار من الطبقات والصراع الطبقي. فصول هذا المؤلف هي، وفق المحرر، محاولة لتطوير فهم أعمق للصراع الطبقي من خلال صفحات كتابات العهد الجديد. فقراءة النصوص القديمة من خلال منظور الصراع الطبقي، هي إحدى طرق زيادة فهمنا، ليس فقط للتعقيدات الاجتماعية والاقتصادية للعالم القديم، لكن أيضاً للقوى التاريخية التي تحدد مسار عصرنا. إن المهمة المطروحة في هذا المؤلف ليست ببساطة «إنقاذ» يسوع أو كُتَّاب العهد الجديد المختلفين لتسويقه للتطلعات السياسية المعاصرة. العهد الجديد ـــ يقول المؤلف ـــ مزيج من وجهات النظر الطبقية المتضاربة، يعكس في نهاية المطاف الأيديولوجيات السائدة في عصره بغض الطرف عن المواقع الاجتماعية لكتاب أفراد، ويأمل أن يثير عمله مزيداً من الجدل وإعادة النظر اليقظة في الافتراضات الاقتصادية التي غالباً ما تشكل القرارات التفسيرية، والنهج، والسهو.

تبدأ المجموعة التي تضم 12 مقالة بـ«يسوع والهيكل والحشد: نِيل إليوت». يطرح هذا المقال أسئلة استقصائية عن الوكالة السياسية للجماهير المضطربة التي رافقت يسوع في رحلته المشؤومة إلى القدس. هل تصرف يسوع وحده عندما قام، على سبيل المثال، بـ«أعمال شغب» في الهيكل وفق مصطلحات العصر، أم من المنطقي أن نفهمه كجزء من حركة أكبر، وأن يسوع أُعدم نتيجة لمشاركته في ذلك العمل الجماعي؟ يحدد إليوت ميلاً تعلُّلِيّاً في كل من روايات الإنجيل المختلفة وأيضاً في الدراسات الكتابية الحديثة للابتعاد عن فكرة أن يسوع ربما يكون قد وُرِّط في ذلك التمرد الفاشل. كرستُفَر تساشمَن صاحب مقالة «ارحلوا أيها الرومان؟ الجيش كموقع للنضال الطبقي في الشرق الروماني والعهد الجديد» يلفت الانتباه إلى المكانة المهملة للجيش الروماني ضمن دراسات الهيكل الطبقي في القرن الأول، ويتعمق في بحث التركيبة السكانية للجيش في فلسطين الرومانية، وأيديولوجيات الثروة في الجيش الروماني، والوضع الاقتصادي للجنود في نصوص العهد الجديد المختارة.

ألان كادفلّدَر يستجوب في «نتف الفلاحين في مرقس: القضايا المفاهيمية والمادية» فئة «الفلاحين» لتحديد إذا ما كان يمتلك، في الواقع، دقة في ما يتعلق بالتحليل الطبقي لإنجيل مرقس. بحث روبين ولش «هزيمة يهوذا: الأناجيل بصفتها أدب أسير إمبراطوري» يؤكد وجود قواسم مشتركة بين كاتبي العهد الجديد وكتاب يونان ورومان من النخب. المحرر يقترح في مقالة «الصيد لرواد الأعمال في بحر الجليل: الفكر النيوليبرالي وتفسير الكتاب المقدس» إجراء التحليل الطبقي ليس فقط للعوالم التاريخية والأدبية المشفرة في العهد الجديد، لكن أيضاً في ضوء الوسط المعاصر للرأسمالية العالمية.

مقالة «يد السيد: عن مالكي العبيد وعلاقات العبيد» بقلم رولاند بوير وكريستينا بيترسون، تستكشف استخدام استعارات الرق في أمثال الإنجيل ورسائل بولس في ضوء العلاقات الاجتماعية الاقتصادية الكامنة، والاستغلال والنضال. المقالات الأخرى تبحث جوانب أخرى من المادة هي كما يلي: «ملامح شعبوية في إنجيل متى»، و«تكدير طبقة الصائنين في العصور القديمة»، و«إعادة النظر في هدية بولس والوظائف الاجتماعية: نضال طبقي في المسيحية المبكرة» (مخصص لنقد النقد الماركسي ذي الصلة)، وأخيراً «أصل رؤساء الملائكة: التعمية الإيديولوجية للنبل» الذي يقدم فحصاً شاملاً للتطور المعقد لرئيس الملائكة من خلال التقاليد اليهودية لأبطال الأسلاف الملكيين، ويقترح أن المسيحية المبكرة ورثت شخصية هرمية جوهرية لرئيس الملائكة تدعمها أيديولوجية تسعى لإضفاء الشرعية على فئة النخبة من «النبلاء».

مؤلف ثمين يطرح أموراً جديرة بالبحث والتقصي، خصوصاً في أيامنا هذه وانتشار وباء كوفيد-19 الذي فضح النظام الرأسمالي وعرّاه، والانتقال إلى البحث عن بديل إنساني حقيقي يضع البشر في المقدمة لا الربح.

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى