الصراع على تكنولوجيا المستقبل: كابوس «هواوي» يؤرّق واشنطن
صعّد دونالد ترامب حربه ضد «هواوي، مُدرجاً إياها على القائمة السوداء للمصدرين، ومانعاً بيع منتجاتها التقنية للولايات المتحدة. أسباب القرار «الترامبي» عديدة؛ منها تهم التجسّس لمصلحة الحكومة الصينية، لكن أهمها التنافس المتحول إلى صراع بين «هواوي» و«أبل» والسيطرة على المستقبل تكنولوجياً وتسويقياً. لكن يبدو ان واشنطن تدخل حرباً خاسرة أمام العملاق التكنولوجي الصيني، ولا سيما أن بكين تمتلك أوارق قوة متعدّدة.
بعد أشهرٍ من الحرب الأميركية الباردة على شركة «هواوي» الصينية، قرّر الرئيس الأميركي دونالد ترامب، أخيراً، «اللعب على المكشوف»، وقام بإدراج «هواوي» الصينية و70 فرعاً تابعاً لها ضمن «قائمة واشنطن السوداء للمصدرين»، كما منعها من بيع منتجاتها التقنية للولايات المتحدة. وبما أن «هواوي» لن تكون قادرة على شراء بعض المعدات الإلكترونية من الشركات الأميركية من دون الحصول على موافقة حكومية، فقد أتى الرد سريعاً من الشركة، التي قال المتحدث باسمها إن «منعَنا من القيام بالأعمال التجارية في الولايات المتحدة لن يجعل أميركا أكثر أمناً أو قوة، وسوف يؤدي فقط إلى إجبارها على اللجوء إلى بدائل أخرى أقل تطوراً وأكثر كلفة». وقد جاء ذلك في حين أكد المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية، لو كانغ، أن بكين «سوف تتخذ إجراءات ضد الإعلان الأميركي».
تعود أسباب القرار الأميركي إلى عدة عوامل، منها اتهام الشركة بالتجسس لمصلحة الحكومة الصينية، إلا أن أهمها التنافس المتحوّل الى صراع بين «هواوي» و«آبل» الأميركية على السيطرة على المستقبل تكنولوجياً وتسويقياً. الأمر أكثر تعقيداً ممّا هو ظاهر. مثلاً، إذا تلقّى مواطن في عالم «الجنوب» اتصالاً على هاتفه الخلوي، أو أجرى اتصالاً عبر تطبيقات التواصل، فالأكيد أن أحد الجهازين ينتمي إلى إصدارات «هواوي» الصينية. وهذه ليست صدفة أبداً، فمبيعات الشركة انتشرت في 170 بلداً في وقت قياسي، وبلغ النمو 41% (عام 2018) وفق أرقام شركة الأبحاث الدولية «أي دي سي». في المقابل، هبطت مبيعات شركة «آبل» إلى المرتبة الثالثة بعد «سامسونغ» الكورية الجنوبية و«هواوي». ولعل نقطة التحول في «هزيمة» الولايات المتحدة في هذا المجال، تجلّيها نظرية «أبو التسويق الحديث» الأميركي فيليب كوتلر، القائمة ليس فقط على ضرورة مراعاة ظروف المستهلك والتعاطف معه، بل أخذ رأيه في تسعير المنتجات الجديدة بما يناسبه. وهذا ما فعلته «هواوي»: جهاز «أندرويد» متوافر بثمن رخيص وجودة عالية وشكل جميل.
لم يتقبّل الرأسماليون الغربيون منطق «المستهلك الشريك»، فتلقّفه التسويقيون الصينون ليصبح هذا الطرح تلقائياً عند الشركات العملاقة، وسط المنافسة الضروس التي تهدف إلى جعل المشتري استهلاكياً أكثر، مفضّلاً منتجاً على آخر. وهنا، كان لا بد للولايات المتحدة، كمؤسسات حكومية، أن تتدخل بقوة لحماية البضائع الأميركية أولاً، وللضغط المباشر أو عبر الحلفاء على ذلك المنافس الصيني، فكانت الأزمة. بناءً عليه، اتخذت المواجهة أشكالاً أمنية تجسّسية واقتصادية تجارية، لكن في العمق هي أحد مؤشرات الصراع على مستقبل الكوكب بين واشنطن وبكين، ولا سيما مع الدخول في سباق متسارع نحو تطوير شبكات الجيل الخامس (5G) من شبكات الاتصال الخلوي الفائق السرعة. وهذا ما يثير المخاوف من احتمال أن تسمح أنظمة «هواوي» للصين بجمع كميات هائلة من البيانات السرية والمعلومات السياسية، أو تعطيل البنى التحتية في حال اندلاع صراع دولي. لذلك، أتى قرار ترامب بوضع «هواوي» في القائمة السوداء، ليعرقل نشاط العملاق التكنولوجي الصيني، لا سيما في فترة استعداده لاقتناص أكبر فرصة تجارية، والمتمثلة في نشر تكنولوجيا شبكات اتصالات الجيل الخامس التي تبلغ قيمتها عشرات المليارات من الدولارات، وفق صحيفة «ذي تلغراف» البريطانية، التي تشير إلى أن «من شأن القرار الأميركي أن يؤدي إلى خلق تعقيدات خطيرة وصعوبات في الإدارة اليومية لأعمال هواوي»، التي حققت مبيعات فاقت مئة مليار دولار، خلال العام الماضي.
قطف الوردة الصينية
إذا كان في يدك جهاز «هواوي»، فيعني بالصينية أنك تحمل وردة، هذا شعار الشركة المتعددة الجنسيات، منذ تأسيسها عام 1987 في الريف الصيني، ويديرها الضابط السابق في الوحدة الهندسية لجيش التحرير الصيني، رن زتشنغفي. وهذا ما جعل الأنظار تتجه إلى الشركة على أنها تتبع للحكومة الصينية مباشرة.
ووسط محاولة قطف «الوردة» الصينية، نشبت الأزمة بين الصين والولايات المتحدة في أوائل كانون الأول / ديسمبر الماضي، عندما أُلقي القبض على المديرة المالية للشركة منغ وانزو في كندا، بناءً على طلب من الولايات المتحدة بتهمة انتهاك العقوبات المفروضة على إيران. وأصدرت وزارة العدل الأميركية قائمة من 23 تهمة رسمية ضد «هواوي»، شملت تهماً بالتحايل وسرقة أسرار تكنولوجية من الشركات الأميركية. تُعد منغ وانزو وجهاً مهماً لـ«هواوي»، وهي ابنة مؤسس الشركة. لذلك، وضعت عملية الاعتقال الصين أمام خيار واحد، وهو خوض المعركة. وعليه، اتخذت بكين إجراءات غير اعتيادية، وانتهجت «دبلوماسية الرهائن»، حيث اعتقلت مواطنين كنديين بتهمة تهديد الأمن القومي، في محاولة لإنجاز نوع من تبادل السجناء مع كندا. في النهاية، أُفرج عن المديرة الصينية بكفالة، لكن مسألة الاعتقال أكدت أن «هواوي» تحوّلت إلى رأس حربة في المواجهة المتعددة الأشكال بين الولايات المتحدة والصين، خصوصاً أن قضية هذه الشركة خلقت نزاعاً قانونياً يتعلق بالملكية الفكرية أولاً، ليتحوّل إلى أزمة تجارية وسياسية، ومنه إلى تطبيق لشعارات دونالد ترامب الانتخابية ضد الصين.
وقد بدأت هذه الأزمة تأخذ شكلها الحالي، منذ بداية العام الماضي، عندما ضغطت إدارة ترامب على بكين للتراجع عن استراتيجية «صنع في الصين 2025»، عبر إقرار الكونغرس قانوناً لمراجعة مخاطر الاستثمار الأجنبي. حينها، برز اسم «هواوي» التي حوّلت الانطباعات التقليدية المتعلّقة بالصناعات الصينية، خصوصاً تلك المرتبطة بالجودة المتدنية والسعر الرخيص. فضلاً عن ذلك، جعلت الشركة من نفسها نسخة منافسة لكبرى الشركات، وجزءاً من «الحلم الصيني» في قيادة عالم التكنولوجيا. فإذا كان الجيل الرابع ولّد خدمات من مستوى «نتفليكس» و«أوبر»، من الصعب تصوّر ما سينتج عن الجيل الخامس (الذي ستطرحه «هواوي») بعد وضعه قيد التشغيل. لكن المؤكد أن الصراع محتدم إلى حدّ جعل مؤسس موقع «علي بابا» الصيني العملاق، وأحد أثرى رجال العالم، جاك ما، يحذر من حرب عالمية ثالثة بسبب هذا التنافس التكنولوجي «الذي بلغ حداً هستيرياً».
بناءً على ما تقدّم، يؤكد رئيس «مركز آسيا للدراسات والترجمة»، أحمد مصطفى، لـ«الأخبار»، أن قضية الحرب على «هواوي» هي استمرار للحرب التجارية الأميركية على الصين. ويضيف أن «أميركا ستخسر هذه الحرب، خصوصاً مع هواوي، المسؤولة عن إنتاج آبل (في الصين)، التي يستخدمها 300 مليون صيني، وهو عدد سكان الولايات المتحدة أصلاً».
«قضم» بقية التفاحة
من الخاسر الأكبر من هذه الحرب؟ تجيب المديرة في «هواوي» كاثرين شين، في مقال في صحيفة«ذي نيويورك تايمز» بعنوان «الولايات المتحدة بحاجة إلى هواوي»، بأن جملة العقوبات التي فُرضت على الشركة الصينية «لن تجعل الشبكات الأميركية أكثر أماناً»، كما يزعم المسؤولون الأميركيون. وتضيف أنه «بدلاً من ذلك، سيضّر ذلك بالأميركيين العاديين والشركات، عبر حرمانهم من الوصول إلى التكنولوجيا الرائدة، وتقليل المنافسة وزيادة الأسعار»، كما «سيضر الحظر مالياً بآلاف الشركات الأميركية التي تتعامل مع هواوي، إذ إن الأخيرة تشتري أكثر من 11 مليار دولار من السلع والخدمات من الشركات الأميركية كل عام». كذلك، تؤكد شين أن «فرض حظر تام على معدات هواوي يمكن أن يلغي عشرات الآلاف من الوظائف الأميركية».
في ظل الصراع الأميركي ــ الصيني عبر «هواوي» و«آبل»، يُحتمل أن توجه «هواوي» ضربات أكبر لـ«تفاحة» ستيف جوبز، مع بدء شراء الدول والشركات نظام «5G» الصيني. ولعلّ كلام رئيس شركة «هواوي» رن زتشنغفي، يقدّم رؤية المستقبل بعيون صينية، فقد قال في لقاء مع الإعلام الأميركي: «يعتقد البعض في الغرب بأن معدات هواوي تحمل طابعاً أيديولوجياً، إنه أمر مُضحك يماثل تحطيم بعضهم لآلات النسيج في بادئ الثورة الصناعية اعتقاداً بأنها سبّبت الاضطراب في العالم. كيف بإمكانهم الاستمتاع بمشاهدة التلفاز العالي الجودة في المستقبل؟ لو أقصيت هواوي (من تدشين الجيل الخامس) فسيكون لزاماً على تلك المقاطعات دفع تكاليف عالية جداً للتمتع بتلك الخدمة». ويختم: «حينها سيكون الوضع مختلفاً جداً، وقد تطلب تلك البلدان من تلقاء نفسها شراء منتجات الجيل الخامس من هواوي، إننا شركة تركز على المستهلك… وأؤمن بإمكانية بيعنا معداتنا لهم في المستقبل».
صحيفة الأخبار اللبنانية