الصراع على خريطة طريق الثورة (مصطفى اللباد)
مصطفى اللباد
تقف مصر الآن على مفترق طرق كبير، سيرسم الطريق الذي ستذهب إليه بعد إسقاط حكم «الإخوان المسلمين».
خريطة الطريق والتجربة السابقة
اختبر المصريون تجربة خريطة الطريق وأهميتها الفائقة في رسم ملامح المستقبل قبل سنتين ونصف، وبالتحديد عند إسقاط حكم المخلوع حسني مبارك في 11 شباط 2011. احتشد المصريون على مدار ثمانية عشر يوماً مجيداً، في الفترة الواقعة بين «25 يناير» 2011 وحتى يوم تنحي مبارك يوم 11 شباط 2011، أبهروا خلالها أنفسهم والعالم بعزمهم وقدرتهم على إسقاطه. بعدها مباشرة حددت خريطة الطريق ملامح المستقبل لفترة انتقالية، تلك التي انتهت مع موجة الثورة الثانية في «30 يونيو» 2013 التي أسقطت مرسي وجماعته من الحكم. خلت الميادين من الجماهير مباشرة بعد تنحي مبارك، فعادت إلى بيوتها منتشية بانتصارها. ساعتها تقدمت مجموعات الضغط وأصحاب المصالح، فحسموا في ما بينهم خريطة طريق، أفضت في النهاية إلى ما أنتهت إليه من صفقة بين «الإخوان المسلمين» والمجلس العسكري بقيادة طنطاوي وعنان. لم تكن هذه الصفقة ممكنة بدون خريطة طريق متفق عليها في ما بين الأطراف الفاعلة، تلك التي جلست في الغرف المغلقة لتترجم موازين القوى على الأرض بشكل يخدم مصالحها. ولما كان انفضاض الجمع قد ترك الساحات خالية إلا من مجموعات الضغط وأصحاب المصالح، فقد فقدت الثورة ممثليها في التفاوض على خريطة الطريق. والأخيرة ليست سوى محصلة الاتفاق بين التحالف المتبلور بعد إسقاط النظام، وهي كانت في الموجة الأولى من الثورة بين المؤسسة العسكرية وجسم النظام القديم الذي فقد رأسه فقط، وجماعة «الإخوان المسلمين» التي لم تصنع الثورة ولم تشارك بها في بداياتها، وإنما هندست خريطة طريق مواتية لمصالحها. في الموجة الأولى من الثورة تم ترقيع الدستور وترك مهمة صياغة الدستور الجديد إلى هيئة تأسيسية بعد انتخابات البرلمان، ما يعني ترك النظام السياسي القادم كله رهنا بانتخابات ستربحها القوة الاكثر تنظيماً على قوى الثورة المشتتة والأقل تنظيماً والمفتقرة بوضوح إلى قيادة تمثلها، وعن طريقها تستطيع فرض أهداف ثورتها. ساعتها وافقت قوى النظام السابق «الفلول» على خريطة الطريق الإخوانية لقطع الطريق على إزاحة كامل النظام وحصر الخسائر في رأسه فقط، وبالتالي ترقيع الدستور القديم يحول دون تغيير جذري في بنية النظام، ما يعني في النهاية توسيع قاعدة التحالف الحاكم بضم جماعة «الإخوان المسلمين» إليه. في الموجة الثانية من الثورة يبدو الموقف مختلفاً بعض الشيء، فهناك تبلور لقيادة سياسية معنوية تتمثل في الدكتور محمد البرادعي والأستاذ حمدين صباحي. وهناك حركة ثورية هي «حركة تمرد» دعت إلى التظاهرات وقادتها حتى إسقاط الدكتور محمد مرسي، وما زالت مستمرة في التظاهر بالميادين. بالمقابل كانت الموجة الأولى بلا رأس تنظيمي أو قيادي، فنبتت التنظيمات الشبابية كالفطر على خلفية طموحات شخصية في الأغلب، ومن دون سند فعلي جماهيري على الأرض. وبالرغم من الاختلاف الواضح بين الموجتين، إلا أن هناك أيضاً مشتركات تخص موازين القوى. شاركت قوى «الفلول» في الموجة الثانية من الثورة، بعد ان حاولت جماعة «الإخوان المسلمين» استبعادها من التحالف الحاكم بغرض تمكين الجماعة وحدها من مفاصل الدولة. ويبدو واضحاً أن المواكبة الإعلامية للموجة الثانية من الثورة، وإحجام قوى الأمن عن قمع التظاهرات، وكلاهما ينتمي في غالبية قياداته إلى فلول النظام السابق، عكس مساهمة ضمنية في إسقاط حكم الجماعة. بمعنى آخر تتنازع الآن في مصر قوى الثورة ممثلة في «حركة تمرد» والتيار المدني العريض بتلويناته، مع ثلاث قوى مرة واحدة. تتمثل القوة الأولى في قوى النظام السابق التي تريد إعادة عقارب الساعة إلى الوراء وحصر الثورة في إسقاط حكم «الإخوان المسلمين» مع الإبقاء على قسمات النظام وانحيازاته الاجتماعية والسياسية على حالها، في حين تظهر القوة الثانية في التيار الديني ممثلاً في التيار السلفي الذي أفرد الغطاء السياسي على الثورة بمشاركته في إعلان عزل الدكتور محمد مرسي، بالرغم من عدم مشاركته فيها، لا في موجتها الأولى ولا في موجتها الثانية. والقوة الثالثة هي القوات المسلحة المصرية وقيادتها، والتي تعتقد أن «أخونة» مؤسسات الدولة يضرب المصالح الوطنية المصرية في الصميم، وستشارك إلى حد كبير ـ بحكم موازين القوى ومنطق الأمور ـ في رسم خريطة الطريق المرتقبة.
المصالح المتضاربة في خريطة الطريق الجديدة
تريد قوى النظام السابق الآن تفريغ الثورة من محتوياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية عبر فرض أولوياتها على المرحلة الانتقالية، بحيث يصبح مطلب عودة الأمن إلى الشارع المصري بعد انفلات سنتين ونصف مسوغاً لفرض مبدأ «عفا الله عما سلف» والتغاضي عن جرائم وقعت ضد المتظاهرين والثوريين ودماء الشهداء. كما تبغي قوى النظام السابق الالتفاف على مطلب العدالة الاجتماعية، وهو مطلب مؤسس للثورة المصرية بموجتيها، عن طريق إعطاء الأولوية لإسقاط قضايا الفساد المالي السابقة تحت شعار «التصالح مع رجال الأعمال الهاربين»، وهو مطلب سارت فيه حكومة محمد مرسي بتفان وإخلاص. وتروم قوى النظام السابق أيضاً ترميم النظام السياسي ليعود إلى حاله الأول وتوازناته الأولى، عبر خريطة طريق تثبت أجندتها وأولوياتها وإنهاء العزل السياسي لرموز نظام مبارك. بالمقابل يريد التيار السلفي ممثلاً في حزب «النور»، الإبقاء على دستور «الإخوان» ورفض مبدأ تغييره، ووافق على تغيير الدستور ولكن دون المس بالمواد التي تتعلق بالهوية الإسلامية للدولة. يعرف حزب «النور» أن موافقته على المشاركة في المرحلة الانتقالية كممثل للتيار الإسلامي وكغطاء سياسي لإسقاط حكمهم، تحمل فرصاً ومخاطر في آنِ معاً. تتمثل الفرص في وراثة نفوذ جماعة «الإخوان المسلمين» في الدولة وتثبيت مكاسب للتيار الإسلامين تسمح له بوراثة نفوذ «الإخوان المسلمين» في الشارع أيضاً . وبالمقابل تتمثل المخاطر في وصمه بالخيانة لمصالح التيار الإسلامي، وهو ما يواجهه بالتصلب في رسم خريطة الطريق الجديدة ليقتنص الفرص، وليرد في الوقت ذاته على منتقديه بأن وجوده في المرحلة الانتقالية يمنع التيارات المدنية والعلمانية من القضاء على مكتسبات التيار الإسلامي. بمعنى أخر رغبة الجيش والقوى الثورية في وجود ممثل للإسلاميين في المرحلة الانتقالية، تعطي حزب «النور» حق فيتو من نوع ما يشهره في اللحظات المفصلية الحالية، لإجبار باقي الأطراف على تغيير خريطة طريقهم، وبالتالي أهدافهم، وهو ما يمنع بالتالي من وصول الثورة إلى أهدافها. ولا يخفى أن أولويات حزب «النور» لا تتضمن العدالة الاجتماعية ولا العدالة الانتقالية ولا السيادة الوطنية ونوابه لا يقفون احتراماً أثناء عزف السلام الجمهوري الذي يعتبرونه مظهراً غير إسلامي.
الجيش المصري: الحَكَم بين الأطراف
تقف المؤسسة العسكرية المصرية باعتبارها طرفاً فاعلاً وشريكاً حقيقياً في الموجة الثانية من الثورة أمام تحديات كبيرة، داخلية وإقليمية ودولية. وتتعرض هذه المؤسسة إلى ضغوط قوية من أطراف العملية سواء من فلول النظام السابق أو السلفيين أو من ممثلي الثورة في المرحلة الانتقالية لرسم خريطة الطريق، نظراً لأهميتها في تظهير توازنات النظام المقبل. للمؤسسة العسكرية مصالحها في الدولة، ورؤيتها لإدارة الصراع ولكنها تعلمت من درس «المجلس العسكري» الفاشلة منذ سقوط مبارك وحتى انتخاب محمد مرسي، فلم تتصدى لإدارة المرحلة الانتقالية الحالية وتركتها للقوى المدنية. ومع ذلك ومع احتدام الخلاف بين أطراف المرحلة الانتقالية: القوى الثورية وفلول النظام السابق والسلفيين، فستضطر إلى اتخاذ موقع الحكم بين الأطراف الثلاثة. كان معلوماً من البداية أن الدكتور محمد البرادعي هو مرشح «حركة تمرد» المفضل لرئاسة الحكومة الانتقالية، وكان طبيعياً أن يكلفه الرئيس المؤقت بذلك، ولكن اعتراض حزب «النور» وعدم حماس القوى المؤيدة للفلول أجل تسميته، وأغلق الباب أمام خريطة طريق تلبي أهداف الثورة وطموحاتها. هنا سيضطر الجيش إلى تغليب وجهة نظر على أخرى وفقاً لاعتباراته وما يراه مناسباً في المرحلة الانتقالية الراهنة، منعاً للانزلاق إلى فوضى أو مواجهة لا يرغبها في ظل تصاعد الضغوط الأميركية عليه لصالح «الإخوان المسلمين».
الخلاصة
يميز خيط رفيع بين المرونة والتفريط، لذلك على القوى الثورية إبداء المرونة تجاه ممثلي التيار الإسلامي في المرحلة الانتقالية (حزب «النور») منعاً لاستئصال الإسلاميين من الحياة السياسية، وهو أمر لو حدث سيشرع ويشرعن الانزلاق إلى نزاعات مسلحة لا يريدها أحد ولا تخدم المصالح الوطنية المصرية. ولكن بالمقابل التهاون في فرض قسمات خريطة الطريق والتنازل في أحد محكاتها الرئيسة والمفتاحية، أي تعيين البرادعي رئيساً لها، سيعد تفريطاً لا يغتفر في أهداف الثورة، بغض النظر عن شخص البرادعي، لأن خريطة الطريق التي سيجترحها هي الأهم. تعلّم المصريون من درس تحرير السفينة، ثم تسليم زمامها لمن لم يشارك في تحريرها، لأنه سيرسي على الشاطئ المناسب لمصالحه هو وليس مصالح أصحاب المصلحة الحقيقيين. ومن شأن القبول بفيتو حزب «النور» والنزول على إرادته أن ترسم خريطة على قياس وقيافة التيارات المعادية بالثورة، ما يعيدنا بالنهاية إلى المربع رقم واحد. لا يتبق أمام «حركة تمرد» والقوى الثورية إلا حشد الجماهير والنزول إلى الميادين بكثافة تمسكاً بالثورة وأهدافها، وتثبيتاً لانتصارهم بغرض ترجمته إلى خريطة طريق تحقق أهداف الثورة. سيذهب الحشد المدني في الشارع وتسمية رئيس الوزراء وطريقة تشكيل الحكومة الجديدة كمؤشرات لا تخطئ على طبيعة المرحلة الانتقالية التي تمر بها مصر الآن وحصص اللاعبين الكبار فيها.
صحيفة السفير اللبنانية