الصكر يتقصى أنماط القص في القصيدة العربية الحديثة
انطلاقا من انفتاح الأجناس الأدبية والأنواع الشائعة على بعضها البعض، خارج حدودها سعى الناقد العراقي د.حاتم الصكر إلى تقصي أنماط القص، كوجه من وجوه السرد وأقوى مظاهره، وتتابع التشكيلات والأبنية الشعرية في القصيدة العربية الحديثة تحديدا. وذلك في كتابه “النزعة القصصية في الشعر العربي الحديث” الصادر عن دار ظلال وخطوط الأردنية، حيث حصر مجال دراسته في شعر الحداثة العربية بدءا من الشعراء الرواد حتى ما يعرف بجيل الستينيات، هؤلاء الذين من بينهم: بدر شاكر السياب، عبدالوهاب البياتي، أمل دنقل، محمود درويش، حسب الشيخ جعفر، أدونيس وغيرهم.
يرى الصكر أن فحص الجانب الدرامي في القصيدة العربية ظل مقتصرا على صلتها بالمسرح ومظاهره كالحوار، وأساليب القناع، وتعدد الأصوات، فيما أهمل الجانب السردي القصصي خاصة وما يتخذه من مظاهر فنية وأسلوبية، وأبنية تتوسع من خلالها النصوص الشعرية الحديثة، لتستوعب القص بآلياته المتنوعة، كالشخصيات والتسميات وتعينات المكان والزمان، والحواريات والتلفظات، وأفعال السرد وأحداثه، وترابطها في حبكات رئيسية وثانوية وغير ذلك.
ويرجع الصكر هذا الإهمال للقصة في الشعر العربي الحديث إلى بعض التصورات والاعتقادات الخاطئة وفي مقدمتها: أولا الاعتقاد بغنائية الشعر العربي، وحضور “أنا” الشاعر حضورا طاغيا مما يلغي الجوانب الحوارية، ومظاهر القص، بسبب ما يفرضه الوجدان الشعري الطاغي من تجريد صوري ولغوي وعاطفي، وقد أدى تعميم هذا الاعتقاد، إلى تركيز ميزاته واتخاذها معيارا في القراءة والنقد.
وثانيا الاعتقاد بقوة الحدود الفاصلة بين الأجناس والأنواع الأدبية، واستقلال بعضها عن البعض، كأفراد في نوع مختلف، ذي مزايا وخصائص، وتكون النصوص عادة، مناسبة لظهورها وتكريسها.
وثالثا الاعتقاد بنثرية القص الخالصة، وما يستلزم من جماليات خاصة، تقربه من الوقائع التي يتأسس عليها القص، فيما تتكون القصيدة “لغويا”، وتختزل الوقائع لصالح وجودها كمعادل شعوري وعاطفي، بهيئات أو تشكيلات صورية ولغوية وإيقاعية لا مجال فيها لاستيعاب الواقعة وتحديد جوانبها السردية، أي أن “التجريد” المفترض في الشعر، يحذف أي تجسيد أو تعيين سردي من خلال الوقائع أو الشخصيات أو الأمكنة.
ويوضح أن الشعر العربي الحديث يقوم على مبررات نظرية، ويتوفر على طرائق وأساليب فنية، وتسمح باستضافة مظاهر القص المختلفة وتقنياته الأسلوبية، من غير أن تخسر القصيدة هويتها الشعرية، وهذا قائم أساسا على ما جاء به الشاعر الحديث من اقتراب الواقع في اللغة والموضوعات والرؤى الأسلوبية، ومن خفض لفضاء البلاغة والصور، والتخفيف من كلاسيكية المفردة، ونمطية الصورة، والتحرر من المنظور التقليدي، والانفتاح في بنية القصيدة، وهيئتها، بدءا من تكسير الثبات الإيقاعي التقليدي، وبنية البيت الشعري ذي الشطرين، والقافية الموحدة، وصولا إلى تغيير زاوية الخطاب، وانفتاح القصيدة بسبب نثريتها على تعددية الأصوات، ووجهات النظر وفسح سطوحها لتستوعب تعينات المكان وتحيينات الزمان والتسميات، وتوسيع آليات التناص التي تبلورت تنازليا عبر الإمكانات الآتية:
أولا تناص نوعي بين الأنواع الشعرية والنثرية، أي بين الشعر مجسدا في القصيدة والنثر ممثلا في القصة. وثانيا تناص موضوعي بين مجالات عمل القصيدة وموضوعاتها ومجالات اشتغال القص وموضوعاته. ثالثا تناص لغوي يستعير ضمائر اللغة الممكنة، ويمزج الذوات في هيئات وكيفيات مختلفة. ورابعا تناص فني ـ أسلوبي يستوعب إمكانات الملحمة والتاريخ والقناع والرمز والحكايات الخرافية والأسطورة والسيرة ليقدم لها مقابلا شعريا ممكنا مع الحفاظ على هوية القصيدة وخصائصها. وخامسا تناص جمالي على مستوى قراءة النصوص الشعرية ونقدها.
ويشير إلى أن دراسته لا تبحث عن قصة شعرية، أو مظاهر حوارية أو مسرحية، أو عن نزوع درامي، تتحد فيه مكونات الشعر والنثر، بل نبحث عن نزعة أسلوبية تتحدد في البنية الفنية القصيدة، وتكتمل بها أدواتها، بحيث تنصهر في تقنيات القصيدة ولا تنعزل عن مكوناتها الأخرى.
ويتابع أنه وجد “أن الشعر العربي الحديث، يتوفر على أنماط متعددة من احتواء القص وإجراءاته وآلياته، لإدراجها في ثنايا النص الشعري، وتقوية بناء القصيدة، وتعزيز مستوياتها المتعددة تركيبا وإيقاعا ودلالة، وتوسعا متنيا ينقل الخطاب الشعري من الغنائية كرؤية وموقف، إلى الدرامية وما يترتب عليها من سرد يجافي المنحى الوصفي الذي ساد معظم القصائد السابقة على صعود التحديث وترسيخه في الشعر العربي”.
يبدأ الصكر كتابه بباب تمهيدي من فصلين، في أولهما عرض ما ألحقته الحداثة من ضعف في الحدود الفاصلة بين الأجناس والأنواع، مما يترتب تبدل واضح في شعرية النص الشعري، والخصائص الداخلية للأنواع ذاتها، وبين ما قدمه النقد الأدبي الحديث من دعم لهذا الهدم التجنيسي، عبر مفاهيم “التناص” وتعدد أشكاله وتوسعها، حتى غدا تناصا بين الأنواع والأجناس نفسها.
ويرى أن وجود القص في الشعر لا يعني انعدام هوية النصوص الشعرية، وتحولها إلى متون قصصية، كما لم نتابع الرأي القائل بأن القص ليس إلا بروزا سرديا في الشعر. فكلا النظرتين من خلال التكبير أو التقزيم والتصفير، تسلبان النص مركز شعريته وأساس بنائه كرؤية للعالم والأشياء وتعبير عن موقف درامي.
ويقترح الصكر في الفصل الثاني من الباب التمهيدي “قراءة سردية للقصيدة الحديثة، واكتشاف هيكلها البنائي ـ بتعبير نازك الملائكة ـ أو تشكلها وما تضم من مستويات بنائية، متجاوزين ما عرف في شعر النهضة ومطلع القرن بالشعر القصصي أو القصة الشعرية. ويتوقف عند ملامح وعناصر سردية، لها دور بنائي يعزز طبيعة الشعر في النص، ومنها: التسميات والشخصيات والفضاء المكاني والزماني وحيل السرد الممكنة كالاستباق والتأجيل والتوقف والتلخيص وموقع الراوي والمروي له، ووجهة النظر في المنظور السردي والتلفظات والمحاورات وطبيعة اللغة المستخدمة لإنجاز البرنامج السردي للنص وطاقة التناص وكيفياته، وضمائر السرد ومفرداته، ولكن انطلقنا من قانون سردي معروف في علم السرد الحديث، وهو تقسيم السرد بحسب وجود السارد (أو الشاعر كما هو في الدراسة) إلى قسمين: سرد ذاتي نتتبع فيه القص من خلال عيني الراوي وزاوية نظره وما يمنح للوقائع من تأويلات وتفسيرات تتضح في ترتيب أفعال السرد وعلاقة الشخصيات وزوايا النظر. وسرد موضوعي يكون الراوي فيه مطلعا على الأحداث عليما بها، رغم حياديته الظاهرة لكنه يدبر تفاصيل السرد ويوجه أحداثه من الخارج.
الفصول الثالثة للباب الثاني
والفصول الثالثة للباب الثاني يخصصها الصكر لقصائد السرد الذاتي التي حصرها في ثلاثة أنماط: أولا قصيدة المرايا كما برزت لدى أدونيس، وفرق بينها وبين قصائد القناع، واستقرأ التشكيلات البنائية لها. وتنوعات استخدام الضمائر والشخصيات والملفوظ السردي والمحاورات وحصرنا أنواعها المسماة وغير المسماة وموضوعاتها. وثانيا قصيدة السيرة وعني بها السيرة الذاتية حيث درس إمكانية وجودها في الأدب عامة والشعر خاصة، وما أسماه “توتر قصيدة السيرة ومنحاها الدرامي الناجم عن تنازع الذاكرة والمخيلة والشعر والنثر والزمن المستعاد وزمن الكتابة وعلاقة ذلك كله بالشاعر أو الكائن السيري. ومثل لذلك بإصدار سيري حديث هو ديوان الشاعر محمود درويش “لماذا تركت الحصان وحيدا”. مع إشارة إلى إمكان وجود ترجمة الحياة أو السيرة الغيرية التي يكتبها الشاعر عن حياة سواه كما في عمل أدونيس “الكتاب” المخصص لرصد سيرة المتنبي من وجهة نظر الشاعر المعاصر.
وثالثا قصيدة الرمز المقنع حيث يتخذ السرد وجهة رمزية يتقنع الشاعر من خلالها برمزه المستدعى، لينجز نصه الشعري القائم على السرد. وكانت نماذجنا التطبيقية في هذا الفصل من شعر عبدالعزيز المقالح، ورموزه ذات السمة المحلية والعربية والإنسانية.
أما في الباب الثالث فقد حصره الصكر في ثلاثة أنماط من القصائد ذات النزعة القصصية هي: أولا القصيدة المطولة الحديثة بكونها شيئا مستقلا عن القصة الشعرية لوجود الشاعر السارد في موضع بعيد عن الأحداث، وموجه لسيرها وتصاعدها وتسلسلها. وأخذنا “المومس العمياء” لبدر شاكر السياب مثالا درسناه بآليات السرد واجراءاته الممكنة في الشعر. ثانيا قصيدة الواقعة التاريخية التي تسفيد من حدث تاريخي متكامل لتنقله إلى حيز الحاضر دون تصريح مباشر. وقد وجدنا شعر أمل دنقل أفضل مثال تطبيقي على ما ذهبنا إليه في الجانب النظري. ثالثا قصيدة الحكاية التي انصرف إليها شاعر ستيني من العراق هو حسب الشيخ جعفر، وتتبعنا إمكان وجود الحكاية بأنواعها شعبية وخرافية في النص الشعري الحديث.
ويختم الصكر أنه بهذه الإشارات والتطبيقات قد نبهنا إلى ما يمكن أن يهبه السرد كنزوع وموقف ورؤية للنص الشعري الحديث فيغنيه ويقوى خطابه، دون أن يفقده هوية الشعر وطاقته ومزاياه.