يبدو واضحاً أن العدوان الإسرائيلي على مخيم جنين مُنيَ بفشل ذريع، على الرغم من القوة الهائلة التي استند إليها جيش الاحتلال في خلاله. وفي المقابل، خرجت المقاومة من هذه الجولة أكثر قوة بإرادتها وإصرارها ومكانتها التي أجمع عليها الرأي العام الفلسطيني، خاصة أنها جسّدت بإمكاناتها المتواضعة نموذجاً رائعاً من القتال والتكتيكات العسكرية والمناورات، ووحدةً ميدانية بين مقاتليها كافة، مكّنتها من مقارعة قوات العدو وإلحاق الخسائر بها. وعقب انتهاء العدوان، شيّعت جنين، بمدينتها وريفها ومخيمها، الشهداء في موكب مهيب، ظهر الأربعاء، وسط إجماع على خيار المواجهة المسلحة مع الاحتلال، وإعلان البيعة للمقاومة برغم الدمار والخراب اللذين أحدثهما الاحتلال في المنازل والممتلكات العامة والخاصة خلال عمليته. وعلى الضفة المقابلة، ظهر جلياً أن فشل القوات البرية الإسرائيلية سيلقي بظلاله على شكل المواجهة في الفترة المقبلة، نظراً إلى تكبّد هذه القوات خسائر كبيرة في الكمائن والاشتباكات التي وقعت على أكثر من محور، والتي حالت دون إحرازها أي تقدم في المناطق التي حاولت التوغل فيها، على رغم إسناد عناصرها الذين ناهزوا الألف بالطائرات الحربية والمُسيّرة التي شنّت أكثر من 20 غارة، وبأكثر من 200 دورية عسكرية مصفّحة. ومن المتوقع أن يدفع هذا الفشل، العدو، إلى عدم تكرار العملية بالشكل الذي جرت فيه، وبالتالي اللجوء إلى طرق أخرى، أبرزها الاعتماد بشكل كبير على الغارات الجوية وعمليات القصف والاغتيال، أو من خلال العملاء والقوات الخاصة.
وفي هذا السياق، اعترف جيش الاحتلال، على لسان الناطق باسمه، بأن العدوان على مدينة جنين ومخيمها لم يحقّق الأهداف المرجوة، متذرّعاً بأنه لا توجد حلول سحرية لما سماه «الإرهاب». وأعلن أن الجيش سيعود إلى جنين في حال توفّر المعلومات الاستخباراتية التي «لم تكن كافية للوصول إلى جميع الأهداف»، مشيراً إلى أن «الكثير من الخلايا المسلحة انسحبت خارج المخيم، ومن ضمنها الخلية التي قتلت أحد المستوطنين قبل أسابيع جنوبي غرب جنين». كذلك، أقر رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية السابق، تامير هايمن، بأن العملية لم تستطع استئصال القوة العسكرية التي بناها تنظيم «الجهاد الإسلامي» في مخيم جنين وشمال الضفة، بينما هدفت إلى إضعاف المسلحين الفلسطينيين وضرب البنى التحتية التابعة لهم والسماح للجيش بحرية العمل على غرار ما يجري في باقي مدن الضفة. ورأى هايمن أن إطلاق الصواريخ من غزة أول من أمس يهدف إلى ربط محور «جنين – تل أبيب – غزة»، مضيفاً أن «العملية الأخيرة في غزة لم تردع الجهاد الإسلامي، وأن إطلاق الصواريخ أمس على سديروت كان دليلاً واضحاً على ذلك، وأن الهدف المركزي لعملية إطلاق الصواريخ وعملية تل أبيب هو التأكيد على وحدة الساحات في مواجهة إسرائيل». أيضاً، اعترفت وسائل إعلام عبرية بفشل جيش الاحتلال في تحقيق أهدافه المرجوّة من العدوان، لافتةً إلى أنه لا يمكن استئصال المقاومة من جنين في يومين، واصفة العملية بـ«الاستعراضية وبأنها لم تكن أكثر من (حبة مسكّن) للمستوطنين». وقالت صحيفة «هآرتس» إن «الجيش وجد صعوبة في الوصول إلى كل الأسلحة في مخيم جنين، وقلّل التوقعات من نتائج العملية»، فيما وصفت صحيفة «إسرائيل اليوم» ما يجري بـ«معركة على الجبهة في الضفة، وفي الجبهة الداخلية في تل أبيب».
وحول نتائج العدوان وتداعياته المستقبلية، يرى أستاذ العلوم السياسية في «الجامعة العربية الأميركية»، أيمن يوسف، في حديث إلى «الأخبار»، أن مجرد تلويح قادة الاحتلال بالعودة مرة أخرى إلى جنين، يعني أن «العملية لم تحقق أهدافها»، لافتاً إلى أن الاحتلال فشل في «القضاء على بؤرة المقاومة في مخيم جنين الذي تحول إلى نموذج ملهم للفلسطينيين، ولمناطق أخرى»، على الرغم من «حشده أكثر من ألف جندي وأكثر من 200 عربة واستخدامه الطائرات الحربية لأول مرة منذ عام 2002». ويشير يوسف إلى أن المعركة «عكست حالة هائلة من التضامن الاجتماعي والميداني ما بين المخيم والمدينة والريف والمناطق الفلسطينية الأخرى»، كما أنها «وحّدت جزئياً ساحات الاشتباك»، بالإشارة إلى إطلاق قطاع غزة صواريخ في اللحظات الأخيرة، وعملية تل أبيب التي نفّذها شاب من مدينة الخليل. ويعتقد يوسف أن «ما يجري قد يشكّل بداية لتفكك تحالف بنيامين نتنياهو، الذي دفع جيش الاحتلال، رغم تحفظ الأخير لأسباب ومتغيرات كثيرة، إلى معركة غير رابحة»، مضيفاً أن «خسائر الاحتلال كبيرة، بينما اعترف العدو بمقتل جندي فقط». وتابع أن من شأن «هذه المعركة أن تنهي حكومة نتنياهو خلال العام المقبل لأنها فشلت في مختلف مساراتها، فهي حكومة مفلسة على الصعيدين الداخلي والخارجي، ما سيرفع التناقضات في مجتمع الاحتلال، بما في ذلك علاقة الحكومة بالمعارضة، وعلاقة نتنياهو بالجناح المتطرف وزيادة تأثير المستوطنين في الحياة العامة». أما فلسطينياً، فينوّه يوسف «بتصاعد حدة العمل العسكري الفلسطيني من جنين ومن خارجها»، متوقّعاً «تنفيذ العديد من العمليات العسكرية وتحديداً ضد المستوطنين ونقاط ومراكز جيش الاحتلال في الضفة». ويتابع أن «العدوان على مخيم جنين وتصدي المقاومة خلقا شعوراً وطنياً قوياً»، مرجّحاً «ارتفاع وتيرة العمليات الفدائية، واقتحام المستوطنين القرى والبلدات واستخدامهم استراتيجية الحرق في المقابل كما حدث في حوارة وترمسعيا».
من جهته، يلفت المختص بالشأن العبري، عماد أبو عواد، في حديث إلى «الأخبار»، إلى أنه في حين «تحاول إسرائيل حصر المعضلة في الضفة الغربية بمخيم جنين، نفّذ أبرز العمليات الفدائية التسع التي قُتل خلالها مستوطنون وجنود، هذا العام، شبان من خارج المخيم». وإذ يشير إلى أن العملية في جنين هدفت إلى «إشباع الحالة الداخلية من حيث الردع، وإرضاء الحكومة والمتطرفين فيها»، فهو يرى أنها «تهدف إلى أبعد من ذلك استراتيجياً، عبر سياسة الإلهاء عن المشروع الاستيطاني الكبير في الضفة والتهويد المنهجي الذي يحصل في القدس». ويوضح أنه بينما «حدث جنين يبتلع الأحداث، لن يتحدث أحد عن 15 ألف وحدة استيطانية جرى إقرارها، وتحويل المستوطنات الكبرى إلى بلديات يمكن لها أن تنمو بقرار من تلقاء نفسها، أو عبر اقتحام المستوطنين للمسجد الأقصى». وعن تداعيات ما جرى، يرى أبو عواد أن «إسرائيل سوف تواجه حالة أعمق من المقاومة في الضفة الغربية بسبب سلوك الاحتلال هناك بتحويلها إلى دولة «يهود»، خاصة أن من يقود الحكومة الإسرائيلية مستوطن يسكن في «كريات أربع» هو إيتمار بن غفير، ومستوطن يسكن في «قدوميم» هو بتسلئيل سموتريتش، و9 أعضاء يعيشون في المستوطنات»، مشيراً إلى أن هؤلاء «عملوا بشكل دؤوب لكي تتحول المستوطنات في الضفة إلى منطقة ذات حكم ذاتي». ويضيف عواد أنه «في ظل سلوك الاحتلال، فإن طبيعة الرد الفلسطيني ستكون المزيد من التمسك بالمقاومة»، متابعاً أن «الانفجار قادم وسلسلة العمليات ستستمر بشكل أكثر ضراوة وقسوة». ويثمّن دور «الجيل الجديد» في الضفة، والذي «استطاع تفريغ البعد الفصائلي وتنحيته جانباً لصالح فكرة المقاومة»، معتبراً أن من شأن ذلك أن «يؤدي مستقبلاً إلى خلق حالة من الوحدة الوطنية الفلسطينية الداخلية، قد تنعكس على موقف الفصائل».
صحيفة الاخبار اللبنانية