.لا يمكن تفسير الطائفية بالدين، بل بوظيفيتها عند الحاكم السياسي، سواء الحماية لنظام جديد عبر خلق توازنات قوة تمنع الانقلاب عليه، أو تدعيمه بقاعدة اجتماعية عبر خلق فئة من المستفيدين وأصحاب المصالح ببقاء هذا النظام الجديد.
عندما حصل انقلاب 8 آذار 1963، فإن حزب البعث «لم يكن له علم رسمي بحركة 8 آذار» حسب ما يروي الأمين العام لحزب البعث منيف الرزاز في كتابه «التجربة المرة» (دارغندور، بيروت 1967، ص. 90)، بل كان البعثيون المشتركون بالانقلاب هم أعضاء التنظيم العسكري للبعث المسمى بـ«اللجنة العسكرية»، والذين تحالفوا مع ناصريين وعروبيين لتنفيذ ذلك الانقلاب ثم انفرد البعثيون بالسلطة خلال أربعة أشهر. وأحد أعضاء قيادة اللجنة العسكرية، أي أحمد المير، قد كان صريحاً أمام المؤتمر القطري الاستثنائي صيف 1965 لما احتدم الخلاف البعثي بين الجناحين المدني والعسكري، عندما قال «إننا حين أقمنا تنظيمنا وتمت الثورة اخترنا حزب البعث بملء إرادتنا» (الرزاز: ص.91)، والتنظيم العسكري قد أقيم بالقاهرة عام 1959 في وقت كان حزب البعث محلولاً.
وحزب البعث الذي أصبح بالواجهة الرسمية لانقلاب 8 آذار كان قد أعيد تأسيسه في المؤتمر القومي الخامس المنعقد بحمص في أيار 1962 بعد حل حزب البعث لنفسه بزمن الوحدة 1958-1961. وقد كلف ذلك المؤتمر قيادات لبنانية وعراقية بإعادة بناء التنظيم البعثي السوري. وهو، حسب كتاب نيقولاس فان دام «الصراع على السلطة في سورية» (الطبعة الإلكترونية العربية الأولى، مكتبة مدبولي، القاهرة، 2006)، كان تنظيماً لا يتجاوز حوالى الـ400 عضو في يوم الانقلاب (ص.64)، وضباط اللجنة العسكرية البعثية كانوا أقل عدداً ورتبة من شركائهم الآخرين بالانقلاب ولكنهم الأكثر تنظيماً.
الطائفية عند النظام السوري السابق
عبر توزّع قادة اللجنة العسكرية الثلاث: محمد عمران في قيادة اللواء سبعين مدرع جنوب دمشق، وصلاح جديد كنائب مدير إدارة شؤون الضباط. وحافظ الأسد قائداً لمطار الضمير العسكري قرب العاصمة. فإن الثلاثة قد أمسكوا بمفاتيح السلطة بعد 8 آذار 1963. وفتحوا بابها، ثم سيطروا على بيتها، وأبعدوا الناصريين. حتى إذا حاول الأخيرون الانقلاب كان الفشل من نصيبهم في يوم 18 تموز 1963. وهؤلاء الثلاثة كان الصراع بينهم هو الراسم لتاريخ سوريا. عندما الاثنان أبعدا وزير الدفاع محمد عمران ومعه القيادة القومية في انقلاب 23 شباط 1966، ثم قام وزير الدفاع حافظ الأسد بانقلاب 13-16 تشرين الثاني 1970 على صلاح جديد.
خلال مدة 8 آذار- 18 تموز 1963 تم استبدال نصف ضباط الجيش وعددهم سبعمئة.ولكن حسب ما يرويه الرزاز فإن عدد «الحزبيين في الجيش كان ضئيلاً. فاستدعي جميع ضباط الاحتياط من البعثيين… وكانت نسبة المنتسبين إلى الريف في هذا الاحتياط المستدعى نسبة عالية. وبالتالي إن نسبة الأقليات بينهم كانت أيضاً نسبة عالية… وزاد في اختلال هذه النسبة أن كثيراً من الضباط وصف الضباط الذين وقفوا إلى جانب الانفصال… كانوا برجوازيين ورجعيّين وأبناء عائلات وسكن مدن من البرجوازية الصغيرة، وكان تسريح هؤلاء قميناً بإضعاف نسبة السنة التي تمثل أكثرية البلاد» (ص. 158-59). وحسب فان دام، فإن الذين استدعوا كضباط احتياط كان عددهم سبعمئة ونصفهم علويون (ص.82)، وكما يقول الرزاز فإن «الذي يملك الجيش يملك القوة والسلطة» (ص.97).
البعد عن الطائفية للانقسام الثنائي الريفي المدني في سوريا
يمكن القول هنا إن هذه العملية التي تمت في الجيش السوري خلال عام 1963 قد قلبت تركيبته بعيداً عن أهل المدن باتجاه سيطرة أبناء الريف. ولكن كما يقول فان دام فإن «البعد عن الطائفية للانقسام الثنائي الريفي المدني في سوريا لجدير بالملاحظة، فبينما تتركز الأقليات الدينية المتماسكة أساساً في المناطق الريفية الفقيرة المحرومة، نجد أن المناطق الأكثر ثراء والمدن الأكبر يهيمن عليها سنيون» (ص.51). وفي سوريا، عند الوسط الشعبي وخاصة عند أهل دمشق وحلب وهما من كانا يحكمان سوريا في مدة 1946-1958. ثم في مدة الانفصال 1961 -1963، كان يقال إن سوريا بعد 8 آذار 1963 «يحكمها تحالف عدس: علويون-دروز-إسماعيليون». وإن الدروز أبعدوا عن السلطة مع فشل الحركة الانقلابية لسليم حاطوم في 8 أيلول 1966. والإسماعيليين مع انتحار عبدالكريم الجندي في 4 آذار 1969.
هنا، الأرجح أن هذا القلب لتركيب الجيش السوري لم يكن لأكثر من حماية نظام جديدٍ له قاعدة مدنية ضعيفة ومثلها في الجيش. وبالتالي فإن هذا القلب لتركيب الجيش، وهو مفتاح السلطة. القصد منه ضمان استمرار السلطة ومنع الانقلاب عليها. وهناك عملية مماثلة لما فعله البعثيون السوريون قام بها رفاقهم البعثيون في العراق بعد انقلاب 17-30 تموز 1968. عندما أقاموا حكماً طائفياً مناطقياً في تركيبته العصبوية مؤلفة من السنة-التكارتة. وصدام حسين كان مثل محمد عمران وصلاح جديد. وحافظ الأسد ليس متديناً ولا طائفياً في سلوكه الاجتماعي. ولكنه مثلهم بنى سلطة تقوم على عصبية أقلية من أجل وظيفية حماية النظام من السقوط ومن أجل استمراريته.
مشكلة الطائفية في العراق وسوريا
ولكن هذا أنشأ مشكلة طائفية في العراق وسوريا. رأينا أبعادها بعد سقوط صدام حسين في يوم 9 نيسان 2003 والذي استفرد بالسلطة منذ 16 تموز 1979. ويمكن تلمس أبعادها مع سقوط النظام السوري في يوم 8 كانون الأول 2024. الذي بنى أسسه حافظ الأسد منذ عام 1970.
فيما كان ما جرى بسبع سنوات وثمانية أشهر سابقة. تثبيتاً للاستفراد الحزبي البعثي المدني-العسكري بالسلطة قبل أن يقيم حافظ الأسد حكماً ديكتاتورياً لفرد واحد. عبر تأكيد انتصار العسكر على الجهاز الحزبي المدني بزعامة الأمين العام المساعد لحزب البعث صلاح جديد. الذي خلع بذلته العسكرية ولبس بدلته المدنية. مع استقالته من رئاسة الأركان في أيلول 1965 بعد أن تولاها في آب 1963. ولكنه وصل إلى السلطة بانقلاب عسكري ومعه غالبية التنظيم القطري السوري بعد خمسة أشهر. ثم خسرها بعد أن سيطر واستفرد حافظ الأسد بالجيش. وأطاح بالحزب الذي ظل صلاح جديد مسيطراً عليه حتى يومه الأخير بالسلطة. فيما مع حافظ الأسد لم يعد حزب البعث سوى واجهة شكلية منذ يوم وصوله إلى السلطة واستفراده بها.
ثالوث؛ مؤسسة عسكرية-أمنية أمّن استقرار النظام وديمومته
مع ذلك، يجب التأكيد هنا أن حافظ الأسد قد بنى نظاماً يقوم على بنية عضوية. تتألف من ثالوث؛ مؤسسة عسكرية-أمنية يمسك بمفاصلها العلويون. وطبقة من التجار والصناعيين ورجال الأعمال غالبيتهم من سنة المدن الكبرى. ثم ثالث هذا الثلوث هو مؤسسة الأوقاف السنية ومعها الطريقة الصوفية النقشبندية وتفرعاتها من قبيسيات وغيرهم. وهذا الثالوث هو الذي أمّن، مع الدعم الدولي والإقليمي. استقرار النظام وديمومته في أحداث 1979-1982 وعدم هزهزته أو سقوطه.
وحتى في مدة 2011-2024 مع الانفجار السوري الاجتماعي كان هذا الثالوث مستمراً كقاعدة للنظام، ولو أن بشار الأسد لم يكتفِ بمفاصل رئيسية للجيش والأمن يمسك بها ضباط علويون بل مدّ ذلك إلى ما سمّي عند الكثير من السوريين بـ«علونة الوظائف المدنية»، وهو ما شمل قطاعات مثل القطاعات الأكاديمية والديبلوماسية وشركة الطيران وفي الجمارك والمرافئ، ومع طغيان عددي للعلويين في الدوائر الحكومية في مدينتي اللاذقية وحمص. وكان واضحاً أن نسبة المعارضة السياسية للنظام في أحداث 1979-1982 هي أعلى عند العلويين من نسبة المعارضة في أزمة 2011-2024. وكثيرون فسروا ذلك بالرهاب والخوف من انتصار الإسلاميين عند العلويين وفقاً لمنطق أن النظام هو «أهون الشرين». ولكن الأرجح أن اتساع شبكة المصالح الاقتصادية-الاجتماعية في عهد الابن عن الأب هي التي تفسر ذلك، مثلما أن الاقتصاد الزراعي المتدهور هو الذي يفسر معارضة الريف السني لبشار الأسد فيما وقف هذا الريف، وخاصة أرياف حوران ودمشق وحلب ودير الزور، مع أبيه في أحداث 1979-1982.
صحيفة الأخبار اللبنانية