‘الطاو’ مدونة صينية تحتفي بقيم الجمال… المترجم د.محسن فرجاني يقدم أحد أهم الكتب الصينية المقدسة حيث يجعل مؤلفه لاو تسي من الحكمة نِبراسا منيرا يُضيء الطريق ويساعد على الاندماج في الكون والوجود والطبيعة مانحا النفس الإنسانية اطمئنانا يقينيا وآخذا في الاعتبار طبيعةَ الشر في الكون مؤكدا أنه أمر حتمي، وأن الخير لا يتجلى في وجوده.
قيم الخير والحق والجمال، وأصل النفس البشرية، وطبيعة الروح، ودرجات الصفاء الروحي، وصفة الخلود، وغيرها من القِيَم الوجودية التي تكشف للإنسان العالَم الميتافيزيقي، وتجعله أكثرَ قدرةً على فَهم الذات واستيعابها. كل ذلك تحمله نصوص “كتاب الطاو” أحد أهم الكتب الصينية المقدسة التي استقى منها الشعب الصيني تعاليمه، حيث يجعل مؤلفه لاو تسي من الحكمة نِبراسا منيرا يُضيء الطريق، ويساعد على الاندماج في الكون والوجود والطبيعة، مانحا النفس الإنسانية اطمئنانا يقينيا، وآخذا في الاعتبار طبيعةَ الشر في الكون، مؤكدا أنه أمر حتمي، وأن الخير لا يتجلى في وجوده.
يستعرض المترجم د.محسن فرجاني في مقدمة ترجمته للكتاب الصادر عن مؤسسة هنداوي حركة التأليف الفلسفي في الصين القديمة، وذلك انطلاقا من موقع “لاو تسي” داخل هذه الحركة موضحا “لم يكُن في الأرشيف الحكومي التابع لبلاط مملكة “تشو” (القرن الحادي عشر ـ 221 ق.م) مَن يتقن أصول المراسم، ويفهم أُسس العلاقات العامة مثل لاو تان (أو “لاو تسي”، أو لاو تسو، حسب الترجمات الصوتية المختلفة لاسم هذا الفيلسوف) وقديمًا قالت عنه أشهر مدونة في التاريخ الصيني “سجلات تاريخية” على يد كاتبها المؤرخ “سیما شان”: إن لاو تان هذا هو أحد مواطني مملكة تشو، وإنه عاش إبَّان القرن الرابع قبل الميلاد، ولم يكن كاهنًا ولا فيلسوفًا، بل مجرَّد موظف أرشيف إمبراطوري، قصده الباحثون والدارسون ليتعلموا على يدَيه أصول المراسم والمعاملات، وكان المحتوى الفكري لهذه الأصول ـ يومئذٍ ـ جزءًا لا يتجزأ من الميراث الفكري المقدس عند الصينيين”.
ويقول “ليس في الأمر أدنى مبالغة، فما كاد لواء السيادة ينعقد للكونفوشية، حتى جاءت الفلسفة “الموهية” بتلوين مذهبي جديد، يختلف في بعض التفاصيل لكنه يتفق في المبدأ الجذري مع الأصل الكونفوشي، لكنَّ إضافةً أخرى نوعية كانت مطلوبة مع تغيُّر الظروف، فجاءت أفكار “يانغ تشو” لتُضيف وتمجِّد المكانة الإنسانية وقيمة الوجود الفردي، ثم تتطرف فتسعى لإزالة قدر كبير من الأساس الكونفوشي المتين، ثم كانت الوثبة أكثر جرأةً، فتدخل الطاوية من النافذة التي تجدَّد هواؤها مع أفكار “يانغ تشو”، ويتصارع أفراد الأسرة ويشتبك الجميع ويحتدم الجدل، فيأتي القانونيون (أصحاب الاتجاه التشريعي)، ويشكلون اتجاهًا فلسفيا جديدا، جذورهم نبتت من الغرس الطاوي، لكنهم أبناء الكونفوشية الأمجاد المهذبون الأفاضل، يصلحون ما تهدم من البناء الكونفوشي، ويتصالحون مع الطاوية فيما لم يكُن ممكنًا التصالح فيه بحالٍ، والحق أن الطاوية كانت منذ يومها الأول، ميلادا ثوريا مغايرا للمعهود في الفكر الصيني، وربما لهذا ظلت الطاوية وقودًا يمد طاقة الانقلابات الفكرية والفنية والثقافية في مسيرة الثقافة الصينية، حتى وقتنا الحالي!”
ويؤكد فرجاني أن الطاوية جاءت، كمجيء الأنثى إلى دنيا الحياة، إضافة وتطورا مبدعا، ثوريا وجريئا، واعدا بالخلود والبقاء، لكن يبقى أن الأساس الذي انطلقت منه الطاوية كان مغايرا لما قامت عليه الكونفوشية، حيث كان مرتكز البناء الكونفوشي يقوم على المجتمع الإنساني وعلاقات أفراده بعضهم ببعض: الأب وأبنائه، الملك ورعاياه، الأخ وإخوته، الزوج وزوجه.. إلخ. ثم جاءت الطاوية لتنقل مركز الاهتمام إلى كيانٍ آخَر غير مرئي، ثم إن هذا الكيان لم يكُن قائما فوق الأرض، ولا حتى في السماء، بل في غيب الوجود، حيث لا أرض ولا سماء، فالطاو كيان يصعب تعريفه؛ إذ لا مكان له ولا زمان، فهو سابق على الزمن وموجود قبل بدء الوجود، قبل الحياة، قبل وبعد البعد، ثم إنه ليس الإله ولا الآلهة؛ لأنه قبل كل الكل.. إلخ. ولم تكن مثل هذه التصورات مما يمكن أن يخطر على بالِ الفكر الصيني الذي لم يخرج عن حيِّز الوجود الإنساني، فلم يحدث أن حلقت الفلسفة الصينية خارج حدود البشر، فلم تتطرق إلى ما وراء الطبيعة، ولم تبحث عن ثوابت خارج إطار العلاقات الإنسانية، وهذا فرق جوهري بين الفلسفة الصينية والفلسفة الغربية.
ويضيف أن الكونفوشية صدمت صدمة لم تَفِق منها إلَا بعد زمان طويل، وتحديدا عندما أطلت البوابة برأسها في القرن الأول الميلادي تقريبًا. وكانت الأفكار الطاوية الجريئة قد تحولت إلى ظاهرة ثقافية بارزة، ثم إلى بناء فكري راسخ أصبح في مقدوره مواجهة البوذية الوافدة التي هددت أركان البيت الصيني التقليدي، الذي كان يتصارع ويتجادل أفراده فيما بينهم، كان الصراع الفكري ينشد الانسجام والوحدة وتصفية الشقاق مثلما يدعم الوحدة الجغرافية لكل الصين، فليس غريبا أن الطاوية توقفت عن التطور بعد تحقيق الوحدة الصينية في عهد أسرة يوان (1279ـ 1368م)، توقفت كفلسفة برهة من الوقت، لكنها استمرت إبداعا في فن الحرب والطب والفلك والكيمياء.
لكن الجدل الداخلي بين أفراد البيت الصيني جزء من الجو النفسي الذي يقوم على الحوار والحركة بين متناقضات، ولئن كانت الطاوية قد تطرقت إلى مبحث الوجود، وأطالت النظر فيما وراء الحجب ـ وهذا ذنب لا يُغتَفر! ـ فقد عادت تهتم بشئون الإنسان وحياته على الأرض، لكن الأهم من ذلك أنها حافظت على حركة الجدل المبدع بين كل الأطراف، وأضفت حيويةً بالغةً على دائرة الحوار بين الذكوري والأنثوي ـ الأنا والآخر ـ الضعف والقوة ـ الحياة (قوة وضعفا). وهي مثل كل فلسفات الصين لم تتطرق إلى التأمل في الموت، فتلك كلمة محرمة على كلِّ لسانٍ أبد الدهر.
ويرى فرجاني أن الطاو مدونة تاريخية مكتوبة برموز، وعلامات الرمز الصيني القديم، فضلًا عن كونها نظاما تقليديا للكتابة، فهي منظومة فردية قادرة على تجريد مفردات الحياة ومنحها مزاجا أسطوريا من نوع خاص جدا، وبقدر ما تُلغز، فإنها تُثير کوامن العقل سعيا للاستجلاء والاستقصاء (لقد حاول “فرويد” ذات مرة، تفسير دلالات الرموز اللاشعورية بتوظيفها في نظام قادر على استبطان الوعي، على غرار نظام الكتابة الرمزية الصينية!) فكل قراءة اجتهاد يسترشد بالعقل لفض معميات الرمز وخبايا الأساطير، كل مطالعة، كشف واهتداء وتجاوز، ووثبة جديدة فوق الطريق.
ويختم “كان الطاو طريقا، اجتازه لاو تسو، ذات يوم، بعد أن ضاقت به الحياة وسط أجواء مضطربة، قاصدا العزلة، فلما بلغ إحدى نقاط الحراسة على حدود الدولة، وهو في طريق الرحيل، أوقفه قائد الحرس، وكان واحدًا من المثقفين الفاهمين لقدر ومكانة شيخ الفلاسفة والحكماء، وطلب إليه أن يضع له بخطه كتابًا يحوي خلاصة أفكاره (… بما أنه ذاهب هذه المرة بلا عودة!) وهكذا جلس لاو تسو وتناول دواة وقلما وراح يسجِّل في خمسة آلاف كلمة، (81 فصلًا) أشهر مدونة في تاريخ الصين، ثم مضى في طريقه إلى منتهاه”.
ميدل إيست أونلاين