الطيب تيزيني.. شيخ اليساريين
وُلد في بيت متدين وقرأ باكراً الأدب الروسي وتردّد بين الأدب والفلسفة التي تعلّمها في ألمانيا. عاش فترة الوحدة والاستبداد السراجي، الله في داخلنا يقول و «داعش» ثمرة عاملين الدواخل الإسلامية والنظام العولمي.
سؤال يحيل إلى تاريخ وطن، تاريخٌ مرارتُه أقل من حلاوته ـ يقول الطيب تيزيني ـ (حمص ـ 1934) حين نسأله عن الملامسات الأولى التي أطلقت أجنحته في عالم الفكر السياسي، ليغدو عبر عشرات الدراسات والكتب والأبحاث من أبرز المشتغلين على تأصيل فكر عربي يصير جزءاً من تطوّر الفكر الإنساني؛ ناسفاً باتكائه على الجدلية الماركسية مركزية النموذج الغربي في وراثته للفلسفة اليونانية: «عائلتي مثّلت جميع السوريين في تعدد مشارب أفرادها وعلى اختلاف تطلعاتهم؛ فالوالد الذي كان يعمل قاضياً شرعياً، والمتنوّر جزئياً، والأخوة المنقسمون بين التنوير والتصوف؛ كان لهم كل الأثر في بناء شخصيتي التي تغذّت من مكتبة الأب مثلما غرفت من مكتبتي أخي (صلاح) و(عبد الودود) صاحب ورئيس تحرير (جريدة الينبوع) الحمصية».
في حي (باب الدريب) الحمصي، (تحت المأذنتين) وقريباً من منطقة (الشيخ عمر) وحي (الصليبة) شهدت هذه الأماكن تفتح مدارك (الدكتور) فالطفل الذي كان في حبواته الأولى ظل مواظباً على قراءة الكتب وثدي أُمِّه (سنية الجندلي) المرأة المتحدّرة من أعرق عائلات حمص المترفة: «رضعتُ من ثديها المقدّس حتى بلغت قرابة الثامنة من عمري، فأمي كانت في تفكيرها امرأة مؤمنة لكن إيمانها كان محبباً، تركت آثاراً طيبة في نفسي من الرغبة بالمعرفة، إذ لاحظت باكراً أنها لم تكن تقرأ ولا تكتب في ما أتعلم فيه، فلفت نظري هذا الأمر واكتشفت أنها لا تقرأ إلا القرآن من النسخة التي تملكها، والتي ما زلتُ أحتفظ بها في مكتبتي الشخصية حتى الآن منذ وفاتها عام 1967».
اطلاعه المبكر على روايات تولستوي ومكسيم غوركي وقراءته لأفلاطون ومطالعاته الباكرة (في الإسلام والفكر الإسلامي) لأحمد أمين بالإضافة لكتاب (تحرير المرأة) لـ(قاسم أمين) استدل صاحب (من التراث إلى الثورة) إلى جذر المشكلة الاجتماعية العربية: «نتيجة قراءاتي اقتربتُ من الآخرين كثيراً، لاسيما من النساء اللواتي يعشِن ظلماً؛ خصوصاً أن مناقشة هذا الكتاب بدأت في القيناق ـ (كلمة عثمانية تعني المنزول) ذلك التجمع الثقافي والسياسي الذي كانت تديره عائلتي؛ إذ دارت وقتذاك سجالات مهمة جداً في ذلك المكان، لاحظت على أثرها أن قضية المرأة صارت محوراً للقضايا الأخرى، وعبر هذه القضية برزت المواقف الأخرى حتى في الاقتصاد والسياسة، مما دفعني لقراءة (العقد الاجتماعي) كتاب (روسو) الرائع، بل قرأت كل ما أنتجه هذا الفيلسوف الفرنسي مترجماً إلى العربية».
درس (تيزيني) بعد خروجه من حلقات (الكتّاب) المرحلتين الابتدائية والإعدادية في مدرسة (الشيخ طاهر الرئيس) لينال الشهادة الثانوية بداية خمسينيات القرن الفائت؛ فمن العلاقة بين القارئ والمقروء؛ والمعرفة وثدي الأم، تفتحت عينا الشاب الصغير على عالم الفقراء وخصوبة هذا العالم وجحيمه: «ازداد محيطي تنوعاً وطيباً ودفعاً باتجاه الفقراء؛ صرتُ أبحث عنهم، مما جعلني في الفترة الأخيرة رجلاً بكّاءً أحاول أن أوقف الدمعة لكنني لا أستطيع (يبكي)».
بدأ (الطيب) مؤخراً بكتابة سيرته الذاتية حيث تركها سيرةً مفتوحة لا تنتهي ـ كما يخبرنا ـ إلا بانتهاء حياة الكاتب؛ فالرجل الذي عايش فترة النهوض بعد الاستقلال شاهد عن قرب في تلك الأيام كيف صارت السياسة تبرز في الانتخابات البرلمانية مطلع الخمسينيات؛ ليغادر بعدها صاحب (بيان في النهضة والتنوير العربي) إلى دمشق متمماً تحصيله في جامعتها (كلية الآداب ـ قسم الفلسفة)، وما إن وصل إلى عاصمة بلاده حتى بدأت الانقلابات العسكرية تتوالى مع كلٍ من أديب الشيشكلي وحسني الزعيم وسامي الحناوي، إلى أن قامت الوحدة بين مصر وسورية 1958.
تعرّف (تيزيني) على دمشق ومؤسساتها الثقافية ومكتباتها وصالات المسرح والسينما فيها، ليعمل كمدقق لغوي في مجلة (ألف باء) متدبّراً بأجره البسيط منها شؤون حياته؛ لكن الشاب الحمصي لم يكتفِ بذلك؛ بل خاض في نقاشات مثقفي دمشق داخل الجامعة وخارجها، إلى أن تطور الأمر به ليكون مهتماً بالشؤون الاجتماعية والسياسية: «اقتربت في الجامعة أكثر من السياسة وصرت أهتم بالدراسات السياسية في قسم الفلسفة على يدي أساتذة كبار كان أبرزهم (عبد الكريم اليافي) و(عادل العوا). لقد كانوا معلمين وأصدقاء لي وسط لوحة متعددة المشارب، وكان ذلك مهماً جداً وجدت ما يوازيه حتى على الصعيد الفكري التجريدي في الحقل الفلسفي؛ فاكتشفتُ أن التعددية قدر سورية والسوريين».
فترة الوحدة
عاش (الطيب) فترة الوحدة السورية ـ المصرية سياسياً وفلسفياً وكان قريباً من الحزب الشيوعي: «بدأتُ وقتذاك أعيش محنة الوحدة، فبسرعة أتى الأمر وأُخِذ؛ فالوحدة لم تأخذ مرحلة تجريبية؛ ودون إجراء استفتاء شعبي بين الناس، لتأتي هذه الوحدة متسرّعة وعاطفية ولتستمر وكأنها اللحظة التي إذا تركناها الآن ستضيع منا وإلى الأبد، وقتذاك كنتُ في الجامعة وبدأ أمر جديد يحدث في قاعات الدراسة وهو الصراع بين الطلبة أنفسهم؛ فلأول مرة رأيتُ رجال المباحث يقتحمون الحرم الجامعي ويعتقلون الشباب؛ فبرزت هذه الظاهرة وتعاظمت إلى أن حدث صراع دامٍ بين الفريقين: فريق السلطة (الوحدويون) آنذاك وفريق المعارضة من البعثيين والشيوعيين والإسلاميين».
تعطيل الحياة السياسية بشكل رسمي وإيقاف المجتمع السياسي وحل الأحزاب لنفسها رافقته صراعات دامية وغير علنية؛ حياة سرية في أحد أوجهها – كما يخبرنا (الطيب): «كنت أشارك في أنشطةٍ لها طابع نظري، وأقرأ وأكتب الكثير لكنني ومع الوقت لاحظتُ بأنني لم أعد أستطيع كتابة شيء عما يحدث، بل لم أعد قادراً على إنتاج المطلوب مني حتى في الجامعة، خصوصاً أن بعض أصدقائي في أحزاب أخرى لم يعودوا أصدقاء، فهم لم يكتشفوا أن السياسة يجب أن تقرّب ولو كانت المقولات متغايرة، وصارت الحياة في سورية معقدة؛ أضف إلى أنني لوحقت أمنياً دون أسباب؛ ففكرتُ بحل بعد أن أتى حال جديد من الصراع الدموي كانت ذروته بإعدام حكومة الوحدة جمعاً من الشباب الماركسيين والبعثيين في سجون حمص وعلى رأسهم المناضل سعيد الدروبي».
حكومة (عبد الحميد السراج) التي أتت بعد انحلال الوحدة عام 1963، شهدها (الطيب) أيضاً والتي يقول عنها: «تفاقمت وقتها الصراعات المحلية وبدأت الدولة الأمنية بالتشكل منذ ذلك الحين، ولقد ساءني كثيراً أنني عشت هذه المرحلة الباكرة، فوضعت مذاك تعريفاً للدولة الأمنية بأنها الدولة التي تسعى إلى إفساد كل مَن لم يتم إفساده؛ بحيث يصبح الجميع ملوثاً ومداناً وتحت الطلب. لقد ضاقت حياتنا منذ ذلك الحين وصرتَ تسمع بالقتل والتعذيب وبدأت السجون في سورية تفتح أبوابها بشكل استفز الجميع، وأصبحتُ غير قادرٍ على متابعة الحياة، فالسياسة غير ممكنة، والعمل الثقافي يحتاج بيئة أخرى أكثر صحةً وانفتاحاً».
السفر إلى المانيا
قرّر (الطيب) بعدها السفر إلى تركيا عام 1962 ومنها إلى بريطانيا فألمانيا ليكمل بعدها دراسته في جامعة (لايبزغ) مشتغلاً بكثافة على قراءاته وتعلّم الألمانية واللاتينية؛ وليصبح من أبرز طلاب الأكاديمية الألمانية؛ متتلمذاً على يد أساتذة كبار كان على رأسهم (هيرمان لاي) منتزعاً درجة الماجستر ومن ثم الدكتوراه وبعدها شهادة الأستاذية، إذ قدّم رسالته هذه حول التيارات الكبرى في الفلسفة العربية، منقّباً في مؤلفات فلاسفة العرب الكبار كابن سينا والفارابي وابن رشد.
عاش الفيلسوف الحمصي بين برلين ولايبزغ ومعظم المدن الألمانية الشرقية منها والغربية آنذاك؛ ليعود إلى دمشق عام 1965 لمتابعة التحضير لرسالة الأستاذية ثم ليرجع عام 1967: «عُرِض عليّ وقتها أن آخذ الجنسية الألمانية؛ لكنني رفضت ذلك كما رفضتُه اليوم، أتذكر اليوم ما قرأته منذ سنوات بعيدة لشاعر حمصي مات في الغربة ولم يحقق حلمه في العودة إلى مدينته فكتب مناجياً: (خذوني إلى حمص ولو في قلب الكفن)».
ولكن كيف قرأ (الطيّب) الشرق من وراء سور برلين وقتذاك؟ يجيب: «كتبتُ لاحقاً مؤلفات عدة هي في طور النشر اليوم، كتابات ألفتها بشكل دائم مع متابعة العمل الفلسفي، إضافةً إلى مقالات أفكر أن أجمعها كي تصدر في كتاب أساسي عن فترة دراستي في ألمانيا، منها الموقف الروحي من الإسلام الذي صنع حالات معينة قد تبقى منفتحة وقد تُغلق، وثم وصلت إلى مرحلة نقاش الصراع بين الظلامية والتنوير، فكان ضرورياً أن أحيط بالإسلام تاريخاً ومشكلات؛ ووصلت إلى فكرة التمييز بين المطلق والنسبي في قراءة النص الإسلامي؛ فوجدت أن هذه الفكرة قد تحرّر كتلة كبيرة من الإسلاميين؛، وناديت بضرورة التمييز بين المطلق والنسبي؛ فالمطلق هو الله الإسلامي، والمطلق هنا بمعنى المغلق الذي ليس له نفق تصل إليه إلا عبر نفسكَ، وبالتالي وضعتُ يدي على نقطة طريفة؛ بإنك تعرف الله عبر معرفة نفسكَ؛ إذ إنك لا تعرف الله ذاته؛ إنما تعرفه من حيثُ أنت وليس من حيث هو».
داعش
(داعش) سليل مرجعيتين اثنتين، أولاً الدواخل الإسلامية التي ترفض هذه الفكرة ولديها شيء مقدس ومَن يخالف ذلك يُعتبر آبقاً – يقول (الطيب) ويتابع: «أما الثانية فتشكلت مع بزوغ النظام الرأسمالي العالمي ونشأة السوق؛ وفي ضوء هذه السوق نشأ النظام العولمي، هنا لا بد من تذكر ما قاله ماركس: (كلما ارتفعت قيمة الأشياء هبطت قيمة الإنسان)، وهذا لم يكن لولا التطور الهائل للنظام العالمي الرأسمالي الذي اتجه بسرعة نحو الدواعش، إذ كانت قد بدأت هذه الظاهرة في الدواخل الإسلامية؛ في الاستبداد والجوع والتعاسة والفقر وكل هذه الموبقات التي جعلت من الإنسان شيئاً، فالنظام العولمي أُوجِد لتشييء البشر. النظام الكوكبي اليوم هو السوق المطلقة، هذه الأمور مرت في مراحل عبّرت عن نفسها عبر اضطهاد الشعوب التي كانت مسحوقة ومغمورة وملاحَقة وبتعبير دستويفسكي (مُذَلّون مُهانون)، الآن العالم هو عبارة عن شيء، إنه داعش الأعظم، انظر الآن دخلت داعش عقر كل المدن الأوروبية وبقوة؛ فداعش عالمي نشأته كانت أساساً في البلدان التي وجدت أن الحرية خارج الدين هي كفر، أي شاب أو فتاة مضطهَدين في هذا العالم هو صورة عن الإنسان المُذَلّ المُهان الذي فقد كرامته وقوته، لذلك داعش هو عصر بدأ يكتمل بالانتقام من المسبّب الأول الأخطر المتقدَّم تاريخياً ألا وهو أميركا».
صحيفة السفير اللبنانية