العابثون بالتاريخ!
كَثُر في السنوات الأخيرة هُواة التاريخ والتوليف فيه، مع ارتفاع أدرينالين القَبَليَّة العربيَّة، والحميَّة الجاهليَّة، وغدا كلٌّ على حرثه يركض عاريًا في ميدان الأنساب، والمشجَّرات، وتاريخ العشائر والقبائل والبلدان، في سباقٍ محموم. يجري ذلك غالبًا بلا عِلمٍ ولا هُدى ولا كتاب منير، وإنما هي الغواية، وحبّ الظهور، في مجالٍ صار مجال من لا مجال له، ومستقطب الأضواء؛ تمامًا كالشِّعر العامّي، والسِّحر الفضائي، وتفسير الأحلام، وأحاديث الجنّ والمجانين، ونحوها من الظواهر الثقافيَّة التي تستهوي العامَّة، وتستخفّ العقول.
غير أن التاريخ قد أصبح عِلْمًا في العصر الحديث، ولم يَعُد مقبولًا الخوض فيه من غير متخصّص، لا بشهادة، ولا بدراية يُعتدّ بها، وإنما بنزوعٍ من تلك النزوعات المشار إليها. لم يَعُد مقبولًا اليوم الخوض في التاريخ حتى بآليّات (الطبري، -310هـ = 923)، أو (ابن الأثير، -630ه ـ= 1233)، أو (ابن كثير، -774هـ = 1373)، الذين أحسنوا وأساؤوا، وخدموا المعرفة وخلّطوا تخليطات ظلّت الأُمَّة تدفع ضرائبها، وستظلّ إلى أمدٍ لا يعلمه إلّا الله، وظلّ أعداؤها يتّخذون من مادّة ذلك التاريخ غير المنهجي مطاعن لا أوّل لها ولا آخر.
ذلك أنه تاريخ رأس ماله الأعظم: «قيل وقال»، من سوالف المجالس والأسمار. فكانت المحصِّلة حَطَب ليلٍ كثيف، لا قِبَل للأجيال بفرز صحيحه من سقيمه، لبُعد الشُّقَّة بينهم وبين الأحداث، واندثار الوثائق المُعتدّ بها عِلميًّا، هذا إنْ وُجدت في الماضي. فليس من سبيلٍ أمثل من محاكمة ذلك التراث إلى معايير العِلْم، فما سقط في تلك المحاكمة، وجب أن يُلقَى به عُرض (طبرستان)، أو (جزيرة ابن عُمر)، أو (بُصرى الشام)؛ لأنه لا يصلح لشيء، ولا يستأهل الاحترام العِلْمي.
ولكن ما خطب هواة التاريخ المحدثين؟
وأين الجامعات، وأقسام التاريخ، والجمعيّات التاريخيّة، عن عبثهم المستمر؟
فهذا فقيهٌ صار مؤرِّخًا، وهذا معلِّم صِبيةٍ صار محقِّـقًا، وذلك عاطل عن العمل أصبح مشتغلًا بالأنساب والمشجَّرات، ورابع لا يستحيي أن يضرب بيديه ورجليه في مجاهل الآثار والنقوش. والمطابع تَلْهَم ما يأفكون من ذلك كلّه ثمّ تقذفه في الوجوه. وإنْ لم تفعل المطابع ذلك لضوابط باقية، من فسوح النشر ونحوها، فـ«الإنترنت» كفيل بنشر غسيل من لم يجد له ناشرَ غسيل.
ثم أنت واجدٌ بعض هؤلاء لا يخلو وفاضه من المنهاج فحسب، بل هو أيضًا خالي الوفاض من الاحتكام إلى منطق العقل البسيط. هو- على سبيل المثال- إذا ألفى اسم قبيلة، ظنّ أن كلّ ما وافق المادة اللغويّة لاسمها ذو علاقة بها؛ فإذا هو يقيم علاقاتٍ متخيّلةٍ بين الشام واليَمَن، والمشرق والمغرب، لا أصل لها إلّا في مخيّلة جهله وعماه، وكأن الاسم لا يَرِد في حياة العرب إلّا مرّة واحدة، سواء كان لعَلمٍ إنسانيٍّ، أو قَبَليٍّ، أو مكاني! وهذا ممّا وقع فيه بعض البلدانيّين والمؤرّخين قديمًا، وإن لم يكونوا دائمًا بهذا الخيال الواسع اللافت لدى بعض هواة التاريخ المحدثين، ذلك أن أولئك الأقدمين، وإن أعوزتهم مناهج البحث والدرس، كانوا يحترمون قارئيهم، وكانوا يتعرّضون للنقد الشديد من معاصريهم، وهم إلى ذلك قد ثقفوا من الأصول العلميَّة، فقهيّةً أو حديثيّة، ما يفحصون من خلاله الروايات، وينقدون ويفاضلون ويرجّحون، غير واقعين في خبط العشواء المطلق.
على أن التاريخ لدى بعض هؤلاء الصِّبية المعاصرين لا يعدو قِصَّة مسليَّة، أو ادعاءً وتبجّحًا ومفاخرة، لا معلومات مدقّقة محقَّقة. يكفي أن تُروَى لهم المعلومة ليلتقطوها، ويدوّنوها، ويكبّروها، وينفخوا فيها، بلا فحصٍ لمصدرها، أو نقدٍ لمحتواها. ومن كُبرى مضحكات بعضٍ آخر أن تراه يستند إلى ما يستقيه من «كبار السِّن»! ويا ليته يكتفي بالاستئناس بذلك في مُحدَثات الأمور، ممّا يكون الراوية قد شاهده أو عاصره، لكنك ستجده يركن إلى ذلك في تقرير الحقائق، وتاريخ الوقائع، وإنْ فيما سلفَ قبل أن يولد (كبير السِّن الراوية) بمئات السنين! لكأن صاحبه ديناصور، إذن، قد حلب الدهر أشطره مذ قوم عاد! مع أن هذا المصدر يُعَدّ من أوهى مصادر المعلومات، حتى في شؤون الحياة اليوميّة؛ فما أكثر ما يعتور كبار السن الوهم والوسواس والاختلاط والتخريف، لعوامل من ضعف الذاكرة وكلال العقل واختلال الإدراك.
إن التعويل على كبار السن في المعرفة التاريخيّة هو من أخطل المناهج وأغباها، ما لم يؤخذ بوعيٍ نقديٍّ، وحذرٍ شديدٍ، وفي أضيق الحدود! غير أن قداسة الماضي في النفوس، وجهالة الفقه بكيفيّات تشكّل الأفكار والمعلومات، وكيفيّات تمحيصها، تمنح الكبير سِنًّا الصدارة دائمًا، حتى في عِلم ما لم يَعلم، والشهادة بما لم يَشهد. ثمّ قد تجد صاحبك المؤرّخ الهمام يختم وصلته التاريخيَّة بعبارة: «والله أعلم!» معتقدًا أنه بهذا قد أعفى نفسه من إثم ما اقترفت يداه. والله أعلم، بلا شك، ولم يطالبك أحد أن تدّعي المنافسة في عِلم علّام الغيوب، ولكن لن يغفر لك القارئ ما دُوْنَ أنْ تكون أنت عالمًا وفق المعايير البشريَّة، لا مدجّلًا أو مدلّسًا أو مدّعيًا.
أجل، لقد آن أن يُحجَر على غير المتخصّص في التاريخ الخوض فيه، كما يُحظَر على غير المتخصّص في الطبّ ممارسة الطبّ، وعلى غير المهندس ممارسة الهندسة؛ فتلك علوم محترمة، ومِهَن دقيقة تقوم عليها حياة الناس، وليست بابًا مفتوحًا لكلّ من هبّ ودبّ. وإذا كانت هذه الضوابط تُسَنّ في الحقول العِلميّة وتطبَّق، فما بال الحقول الإنسانيَّة تظلّ مسرحًا مفتوحًا للهواة، حتى من غير الموهوبين؟! هذا لا يحدث إلّا في عالمنا العربي، بطبيعة الحال، كأشياء عجيبة أخرى كثيرة تحدث وتُستحدث هاهنا، تحت ذريعة «وأمّا الزَّبَد فيذهب جُفاءً»، التي يُراح بها البال من المسؤوليّة في الأخذ على أيدي العابثين بالتاريخ والآداب والفنون. والزَّبَد لن يذهب جُفاءً، ما دام هناك من يتلقّاه بالسكوت، والمجاملة، وربما بالقبول والترحيب والترسيخ، بل الزَّبَد سيصبح البحر كلّه. وهل غَمَّ العقولَ والقلوب والأذهان إلّا ركام هذا الزَّبَد التاريخي الذي ورثناه ولم يذهب جفاءً قط، وما زال يغمر الأُمّة، ويكتسح بطوفانه البلدان؟!
لقد كان العرب من أكثر الشعوب ترحّلًا، إن لم يكونوا أكثرها على الإطلاق. وكانوا يحملون معهم ثقافتهم، وأسماء مواطنهم، وتاريخهم، وذكرياتهم، وفنونهم أَنَّى حَلُّوا أو ارتحلوا. وانداحت أعراقهم في الأرض، وخالطوا الأعراق الأخرى والثقافات، حتى بات من المجازفة الرعناء الاستناد على الأشباه والنظائر بين أسماء البلدان وقاطنيها دون بحوث أنثروبولوجيَّة معمّقة ودقيقة. بات من المجازفة الرعناء الأخذ بظاهر التصاقب بين الأسماء، كما كان (ياقوت الحموي، -626هـ= 1229)، وهو مستندٌ على أريكته في (حماة) أو (بغداد)، يحدّد بلدة على أنها في ديار (بني تميم)، مثلًا، استنادًا إلى بيتٍ شِعريٍّ وَرَدَ فيه ذِكر اسمٍ شبيهٍ باسمها، أو كما كان (أبو عبيد البكري، -487هـ= 1094) يفعل ذلك، وهو متكئ على طنافس (إشبيليّة) أو (قرطبة). في حين أن اسم مكان ستجده يتكرّر من أقصى اليَمَن إلى أقصى الشام، ومن بلاد البَرْبَر الأمازيغ في شمال أفريقيا إلى خراسان! والشعراء في كلّ وادٍ مجازيٍّ يهيمون، ويقولون ما لا يعنون حرفيًّا؛ ولا يستقي المعرفة بالجغرافيا والتاريخ من الشعراء إلّا جاهل بطبيعة الشِّعر والشعراء قبل جهله بعِلْمَي التاريخ الجغرافيا.
كلّا، الأمر أكثر التباسًا من ذاك. والشِّعر يزيده على التباسه التباسًا وتلبيسًا وإيهامًا. لا يُقلّل من جهود هؤلاء الرعيل الأوّل من البلدانيّين ومؤرّخي الديار انتقادُهم اليوم، ولا يغضّ ممّا قيل عن رحلات الحموي، أو ما ذُكر في تميّز البكري- ما حدا بوكالة الفضاء الأمريكيَّة ناسا في عام 1949 إلى إطلاق اسم (البكري) على فوّهةٍ من فوهات القمر، عرفانًا بريادته الجغرافيّة. غير أن ذلك تاريخ مؤرِّخين قد مضى عصره وانقضت صلاحية آليّاته. واجتراره- وعلى نحوٍ أقلّ جودة غالبًا- هو كمن يريد أن يُجري العمليّات الجراحيَّة الآن بالطريقة التي كان يجريها بها (ابن سينا، 427هـ = 1037)، وبأدواته نفسها! بل إن الخوض في الشؤون الإنسانيَّة لأشدّ تعقيدًا من الخوض في مجال العلوم البحتة؛ لأن العلوم البحتة تتعامل مع معطيات ماديَّة ثابتة، لا تكاد تتغير على مرّ التاريخ، في حين أن معطيّات التاريخ تظلّ متغيِّرة، متطوِّرة باستمرار، آخذةً في التراكم، والتداخل، والتماهي، والغموض، والتلاشي، كلّما مرّت عليها عجلات الزمن. ومن ثمّ كانت مقاربتها أعسر من سائر المقاربات وأخطر.
ميدل ايست أونلاين