العالم الغرائبي ولعبة الاستعارة في رواية عمرو عاشور

 

ابتداءً من عتبة النص يجيبُ الكاتب عن سؤال على لسان القارئ، قبل الشروع في فعل القراءة، وهو: «سيقول العقلاء مِن الناس: ما جعلَك تدوّن حكايتهم؟»، في لغةٍ تسأل عن الغاية والعلة، فتكون الإجابة هي: «قل للكاتبِ ما يريد»، باعتباره صانع أبطال العمل ومصائرهم. واللجوء إلى هذا المقام يشي أن الكاتب عمرو عاشور يدرك استناد روايته «رب الحكايات» (ميريت- القاهرة) على منطق سردي مغاير، يقوم على المصادفة، لتفسير صيرورة الأحداث.

في «رب الحكايات»، لا نجد الرواية تستهدف محاكاة الفعل بصوره (الممكنة/ غير الممكنة) قدر ما تستهدف محاكاة الفعل المتخيل في عوالم «ألف ليلة وليلة»، وتستعير في هذه المحاكاة بنية ذلك العمل ومنطقه السردي وعالمه الغرائبي، ولغته (في كثير من الأحيان)، وفضاءه المكاني والزماني، فلا نقف أمام تناص، بل استعارة لعمل من أمهات الكتب. سنجد ذلك ابتداء من القصة الأولى «الجنة والدنيا»، التي تقوم على بنية العلبة الصينية أو الدمية الروسية «ماتريوشكا»، كما أسماها يوسا. وهي العلبة التي تتضمن أشكالاً مماثلة لها، وأصغر حجماً، في متوالية تمتد إلى ما هو متناه في الصغر. تبدأ قصة «الجنة والدنيا» بالسقاء الذي تنتظره امرأته، وقد اشتهى ما هو أبعد من طعامها الشهي، اللذة الخالصة للجنس، لكنها لا تفهم مراده، فتقول: «كل ما يسد الجوع طيب» صـ9، وقبل أن يتشاجر مع امرأته يكتشف وجود الابنة «زهرة» مختبئة أسفل الفراش، ويقرر دفنها في الرمل كعادة العرب القديمة، لأن «التلصص طبع العاهرات».

ومن دون مقدمات، أو محاولة للوقوف أمام مثل هذه اللحظة وتأملها، يفرض منطق السرد علينا قيوده مسبقاً بمشيئة الكاتب، ونجد «زهرة» تسعى للهرب مع أخيها «جلال»، ويقابلان رُبّان السفينة الذي يقرر أن يأخذهما معاً، ويتم ذلك من طريق المصادفة، سيدة المنطق السردي في هذا العالم المتخيل. تغرق السفينة في ليلة عاصفة، ويجد جلال وزهرة نفسيهما، وحيدين، في جزيرة لا يسكنها أحد.

وفي الجزيرة نرى الصندوق ينفتح على حكاية جديدة، سبعة كهوف، مكتوب على كل كهف لوحة: كهف الطعام، كهف الشراب، كهف النوم، كهف الملابس، كهف العقاقير والأعشاب، كهف الكتب، وكهف بلافتة هنا الشر، لا تدلف، في تناص بسيط، وظاهر، مع شجرة الخلد أو شجرة معرفة الخير والشر. ويكتشف البطلان جسديهما، ويبدوان كآدم وحواء، غير أن رابطة الأخوة تحول بينهما، وتقرر «زهرة» دخول الكهف، فتكتشف الجني المقيد من خصلات شعره، والذي يضاجعها، وتقرر قتل أخيها في محاولة للحفاظ على ابنها، ابن الجني الذي يكبر ويخبر خاله، بمشيئتها، فيقتلها، وبهذا ينفتح الصندوق على حكاية جديدة وهي حياة «جلال» بعد زوال لعنة الجني. ونجد البنية ذاتها تتكرر في قصة «حكايات وطقوس»، فالأمير يدخل إلى مدينة معلّقة عليها الرؤوس ويسأل عن سرها فيجيب الناس: «لنا أميرة تدعى ذات الجمال والحكمة، وكان مهرها عجيباً وبسيطاً، فكل ما على المتقدم أن يسألها سؤالاً»، صـ167، وهكذا إذا أعجزها السؤال تصير الأميرة زوجة للسائل، غير أن السلطان يصدر فرماناً بقطع رأس الخاسر، وهنا «تأتي المخاطرة، الشق الأصعب في اللعبة». ويقرر الأمير خوض المغامرة بدوره، ويسألها عن فزورة لا تعرف حلها، وبهذا يتزوجها، وقبل الزواج تسأل عن إجابة الفزورة، وتكون الإجابة هي الصندوق الجديد من اللعبة الصينية، حكاية تدور «عمن لبس أمه، وركب أباه، وأكل من قلب الميت حياً، وشرب ماء لا في الأرض ولا في السماء»، وتبدأ بحياة الأمير الذي لم يكن أميراً، بل ابن اسكافي.

إننا نرى إذاً، أن الاستعارة في «رب الحكايات»، لم تأخذ فقط العالم الغرائبي، الخرافي: عالم الجان والماردين، والسحرة، والطيران فوق بساط الريح، وطاقية الإخفاء، وعقلة الإصبع، والغيلان، والأميرات، والسلطان، بل إن الاستعارة امتدت إلى بنية النص. وقد نرى أيضاً عدم الاهتمام بالفضاء الزماني والمكاني، وهو من سمات «ألف ليلة ليلة»، في مقابل الاحتفاء بالحدوتة، فالزمان يلوح من خلال السلطان والأميرات، والعملة المستخدمة: الدنانير، هو زمن ممتد من نص آخر متخيل، حيث الأشياء تحدث جزافاً، مصادفة، لا قدراً، «هو يؤمن بالمصادفة أكثر، المصادفة التي أوقعته في طريق الجثة» صـ123، كما في قصة «الجسر». والمصادفة هي وإن كانت منطق السرد في الحواديت، والخرافات، والحكايات، لكن منطق السرد يختلف في عالم الرواية، وهو الأمر الذي دفع الكاتب في عتبة النص للرد على ذلك: للكاتب ما يريد، وهنا نتطرق إلى التصنيف، هل نحن أمام رواية؟ البنية الغرائبية والخرافية لهذا العالم تصنع وحدة معنوية، ربما لا تكون كافية، لكن هناك خيوطاً واهية أراد الكاتب أن يجعلها تربط بين القصص. بعض الأبطال في القصص يذكرون ما حدث لأبطال القصص الأخرى، كأنهم تحولوا إلى أساطير أو مُثل، لأبطال هذا العالم. وفي ظني أن مثل هذا لا يعد كافياً. كان يمكن تصنيف العمل باعتباره حواديت، حكايات، نصوصاً، وإن كانت كل رواية تعد نوعاً أدبياً في ذاتها، بقول باختين، لكننا نقابل إشكالية تتمثل في خصوصية العمل الفني وتفرده.

ما الجديد إذاً؟ إذا كانت بنية العالم وأساطيره مستعارة، فلا يتبقى أمامنا غير المضمون، فالموضوع مشترك أما المضمون فخاص، وهنا يسخر المضمون من عالمنا، منّا كأبطال لسارد عليم يحركنا كيفما شاء، نرى هذا من خلال موقع الراوي، باعتباره رب الحكايات، الذي يتدخل، في بعض الأحيان، للتعليق على مجرى القصص، فيقول: «هكذا يود الراوي!» صـ45 في قصة «الجنة والدنيا». ويقول أيضاً في قصة «الإنسان البدائي»، «لكن عليه أن يحذر من القطط والحيوانات التي يمكن أن تفوقه حجماً، فليس من العدل أن يأكله فأر قبل أن يصل إلى حلمه الأثير، لست قاسياً إلى هذه الدرجة»، صـ111. غير أن الراوي الذي يتحدث عن العدل، وينفي عن نفسه القسوة يقول في قصة الجسر عن البطل قبيل لحظة الإعدام ظلماً: «يرفع السيف عالياً (هو في حاجة لمعجزة لن أحققها له) ينزل السيف بقوة». صـ163. ويقول أيضاً في القصة ذاتها: «لقد وقعت في يد من لا يعرف النهايات السعيدة»، فلماذا؟ لا إجابة عن هذا السؤال، إنها سخرية من الحكمة البعيدة عن أعين البشر. هنا نرى المضمون، نرى رؤية العالم، بطريقة ساخرة، من مصائرنا، وأحلامنا، من العدل والحكمة والمنطق، ومن معاني الحياة كلها، من طريق الاحتفاء بالحكاية، الحدوتة، في أبسط صورها، من دون تعقيدات.

صحيفة الحياة اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى