العالم بين الغرب الأبيض وبقية البشرية – حين يقرر العرق واللون مصير الثروات
ماهر عصام المملوك

لعل من أكثر المفارقات المأساوية في تاريخ البشرية أن يُقسم العالم فعليًا إلى قسمين: القسم الأول هو العالم الغربي الذي طالما اعتبر نفسه مركز الحضارة والتقدم والقيم العليا، والقسم الثاني هو بقية البشر ممن وُصِفوا ضمنيًا أو صراحة بأنهم أدنى شأنًا أو أقل استحقاقًا للخيرات والثروات.
هذه القسمة ليست مجرد توصيف جغرافي أو اقتصادي بل هي نتيجة تراكب طويل لسياسات التوسع الاستعماري، والفكر العنصري، واحتكار الموارد، الذي ما زال حتى يومنا هذا يفرض نفسه على شكل تفاوتات صارخة بين “السادة البيض” وبقية الأمم.
من مسخرة القدر فعلًا أن العرق واللون كانا وما زالا عاملين حاسمين في صناعة هذا الفرز اللاإنساني. ففي القرون الماضية، عندما انطلقت الحملات الاستعمارية الأوروبية لتقتسم العالم، لم يكن الاستيلاء على الأرض والثروات فقط هو الهدف، بل كان هناك أيضًا مشروع ذهني يبرر هذا التوسع. وُظفت نظريات عنصرية مثل «عبء الرجل الأبيض» التي ادّعت أن الأوروبيين جُبلوا على التمدين والتحضر، فيما سائر الشعوب قاصرة، بحاجة إلى «الرعاية».
هذه الأيديولوجيات كانت الغطاء الأخلاقي لنهب الثروات وتحويل شعوب بأكملها إلى قوة عمل رخيصة أو عبيد محرومين من إنسانيتهم.
بُنيت إمبراطوريات ضخمة بأموال مسروقة من أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، واغتنت الدول الغربية على حساب تجريدالمستعمرات من مقدراتها. بل إن الثورة الصناعية الأوروبية قامت أساسًا على تراكم الثروات من تجارة العبيد والمعادن النفيسة والموارد الزراعية. بينما جرى حرمان الشعوب الأصلية من حقوقها، واستُخدم العنف الممنهج لإخضاعها وكسر مقاومتها.
لكن المفجع أن هذا المنطق لم يمت بانتهاء الاستعمار التقليدي، بل تغيرت أدواته. فما زال النظام العالمي الراهن يعيد إنتاج التفاوت ذاته بوسائل جديدة كالعولمة الاقتصادية التي تُكرّس تبعية دول الجنوب، اتفاقيات التجارة التي تفرض شروطًا ظالمة، وهيمنة الشركات العابرة للقارات على الموارد الطبيعية.
وكذلك تتحدث المؤسسات الغربية عن «التنمية» لكنها غالبًا لا تتيح لهذه الدول إلا دور المورد للمواد الخام أو المستهلك للمنتجات المصنّعة.
ولو تأملنا الإعلام والثقافة المعاصرة، نجد استمرار هذه النزعة التمييزية بأشكال ناعمة لكنها لا تقلّ خطورة. فالأبيض يُقدَّم دائمًا بصفته النموذج الأرقى للحداثة والعقلانية والنجاح، بينما تُختزل شعوب الجنوب في صور نمطية: الفقر، العنف، الجهل. الإعلام الغربي يخصص مساحات واسعة لتلميع صورة ذاته والتأكيد على «تفوق» نمط عيشه، بينما يُنظر إلى بقية العالم باعتباره هامشًا أو ساحة للأزمات.
الأخطر من ذلك أن هذا التمييز يتسرب إلى العلاقات الدولية والسياسات العالمية. لا يزال الغرب يمنح نفسه بحكم «تفوّقٍ» مزعوم في امتياز تقرير مصير الشعوب الأخرى تحت شعارات مثل «حقوق الإنسان» و«التدخل الإنساني»، وكأن هذه الحقوق لا تكتسب شرعيتها إلا عندما يوافق عليها المركز الأبيض. حتى المساعدات الإنسانية في حالات الطوارئ كثيرًا ما تُستخدم وسيلة ضغط سياسي وإملاء للشروط.
هذا المشهد لا يعني أبدًا أن الغرب كتلة واحدة موحَّدة في عنصريتها، ولا أن بقية البشر عاجزون عن التغيير. لكنه يسلط الضوء على حقيقة بنيوية: النظام العالمي تأسس على ميزان غير عادل، ركيزته التمايز العرقي والاقتصادي. وما لم يتم تفكيك هذه البنية وإقرار حق الشعوب في العدالة وتقرير المصير على قدم المساواة، سيظل العالم منقسمًا بين أقلية تستحوذ على الثروة والسلطة وأكثرية تُحرم من أبسط حقوقها.
ما يعزز هذه الفجوة اليوم هو امتلاك الغرب وسائل الهيمنة التكنولوجية والمعرفية. فالمعرفة هي سلاح ناعم يكرّس الفوقية الثقافية، حيث تصنع الجامعات الكبرى والمراكز البحثية الخطاب السائد، وتحدّد ما هو «شرعي» معرفيًا وما هو «متخلف». ويظل طموح الدول النامية في اللحاق بركب التقدم محفوفًا بقيود بنيوية: ديون خانقة، مؤسسات مالية دولية تُقرض بشروط تضمن استمرار التبعية، وأسواق عالمية مسيطر عليها.
إن أخطر ما في الأمر أن هذا التفاوت يورَّث ويعاد إنتاجه جيلاً بعد جيل حتى يغدو عاديًا ومقبولًا. هنا تكمن مسؤولية الفكر الحر والحركات الاجتماعية والإنسانية، في فضح هذا الزيف التاريخي وإثارة الوعي بأن ما جرى ويجري ليس قدرًا محتومًا، بل هو نتيجة سياسات وخيارات يمكن ويجب تغييرها.
في النهاية، إن كرامة الإنسان لا تُقاس بلونه ولا أصله ولا عرقه، وإن خيرات الأرض ليست حكرًا على أمّة دون أخرى. ولعل أول خطوة نحو عالم أكثر عدلًا وإنسانية هي الاعتراف بهذه الحقيقة، ثم الشروع في تصحيح إرث قرون من الاستغلال والتمييز، حتى لا يبقى البشر مقسومين إلى «سادة» و«عبيد» إلى أبد الآبدين.
وكما قيل “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم امهاتهم احرارا “.
بوابة الشرق الأوسط الجديدة