العالم بين رؤيتين: دينية وعلمانية| قراءة في “مروج الذهب” للمسعودي، و”تاريخ البشرية” لتوينبي.

 

كيف بدأ البشر من اثنين فقط في لحظة زمنية يصعب تحديدها، وفي مكان يكاد أن يكون مجهولا إلى أن يصبحا هذه المليارات التي تملأ الأرض؟ سؤال حاول الإجابة عنه كثيرون، لكني أقف هنا أمام محاولتين أرادتا الإجابة عن السؤال من منظور مختلف.

المحاولتان متمايزتان زمانا ومكانا وتوجها، الأولى القريبة هي محاولة أرنولد توينبي في كتابه “تاريخ البشرية”، والثانية البعيدة هي محاولة المسعودي في كتابه “مروج الذهب”. توينبي علماني لا ديني، والمسعودي مسلم يؤمن بالأديان كلها، توينبي يقف على أرضية علمية تسنده فيها علوم الآثار والتقنيات الحديثة في تحديد أعمار الحفريات، والمسعودي يعيش في عصر يرى آثار الأقدمين، لكن علوم العصر لا تمكنه من استقراء أبعد مما هو ظاهر فيها. ومن ثم لا يعدها من مصادر معرفته. ولما أرادا أن يكتبا عن الملحمة البشرية، فإنهما كتباها من موقعي رؤية شديدي التباين.

بدا كوكب الأرض في كتاب توينبي كأنه يقف وحده في هذا الكون، لا يشير الرجل إلى كواكب أخرى إلا إذا كان في الأمر صلة بالحياة على الأرض. ظهر عند توينبي نزوع حاد إلى عزل كوكب الأرض عن سائر الكون، وهو نزوع علمي في الأساس، فالمعلومات الوحيدة التي يمكن الاطمئنان إليها وتأسيس نتائج علمية عليها لا تأتينا إلا من داخل الأرض، أما الوحي باعتباره مصدرا من مصادر المعرفة عند المتدينين كما ظهر عند المسعودي، فلم يشغل بال توينبي، ولم يشر إليه، حتى حديثه عن الأديان الكبرى في العالم فقد جاء وفق رؤية علمانية.

هذا الخلاف بين الرجلين، لنقل إنه خلاف أيديولوجي، أثر على النقطة التي بدأ بها الرجلان كتابيهما. المسعودي بدأ من خارج هذا العالم؛ لحظة خلق آدم وما دار فيها، ولأن مصادره الموثوق فيها لا تتجاوز القرآن الكريم، وهو لا يعطي تفصيلات كثيرة حول هذا الأمر، فإنه يلجأ إلى مرويات ابن عباس وغيره ليملؤوا فجوات النص الغيبي. أما توينبي فقد بدأ من داخل الأرض ومما يسميه المحيط الحيوي الذي يغلف الكوكب، وهو يتكون من الأرض والماء والهواء، وهو “الآن الموطن الوحيد – وسيظل، بقدر ما يمكننا أن نرى ذلك الآن، الموطن الوحيد الذي يمكننا الوصول إليه – لجميع أنواع الكائنات الحية المعروفة، بما في ذلك البشر.” وحين انتقل إلى البشر فقد بدا أنه يؤمن بنظرية التطور، فلا يؤمن بالخلق الكامل للإنسان من لا شيء، ولا يشغله البحث في الما ورائيات.

أثرت هذه البداية على الرجلين حين بدآ يتتبعان مسيرة الإنسان على الأرض وتنقلاته عبر العالم المعروف لكليهما. المسعودي بدأ من الهند على اعتبار أن آدم عليه السلام نزل في الهند كما قال اعتمادا على مصدر المعرفة الوحيد لديه وهو الوحي، ليس الوحي القرآني على أية حال. وهو ينقل عن كبراء الهنود السبب في ذلك، يقولون: “نحن كنا أهل البدء، وفينا التناهي، ولنا الغاية والصدر والانتهاء. ومنا سرى الأب إلى الأرض.” بينما رأى توينبي أن حركة الإنسان الأولى بدأت من شرق أفريقيا، اعتمادا على الحفريات المكتشفة، وعلى أجهزة الأشعة السينية التي يمكنها تحديد أعمار هذه الحفريات. ومن شرق أفريقيا انساح الإنسان إلى بقية العالم.

ووجود الإنسان على الأرض عند المسعودي لا يتجاوز بضع آلاف من السنين معتمدا على إحصاءات العهد القديم، بينما يسير توينبي سيرا آخر في هذا الأمر. إنه يرى أنه لا يمكن الوثوق بأية معلومات تتحدث عن البدايات الأولى للإنسان، فقد يكون مر على الإنسان مليون أو نصف مليون سنة من السبات حتى ظهر لديه فجر الوعي. وقد تكون لحظة فجر الوعي هذه في حوالي 70 ألف سنة إلى 40 ألف سنة قبل الميلاد. وهي الفترة التي يمكن الاطمئنان فيها إلى استخلاص نتائج موثوق في صحتها من خلال الحفريات.

المسعودي يعود بعد بداية الهند ليتحدث عن “المحيط الحيوي” للأرض إذا استعرنا مصطلحات توينبي. وهو يقدم صورة موسعة لأرض العالم القديم بدءا من الأوقيانوس غربا، الذي هو المحيط الأطلنطي إلى الصين غربا وهي حدود معرفته بهذا العالم. اللافت للنظر أنه وهو يتحدث عن بحر الروم “الأبيض المتوسط” يشير إلى رجل اسمه خشخاش عبر الأوقيانوس إلى الجهة المقابلة “أميركا الآن”، وعاد منها بعد فترة بهدايا كثيرة. ثم إنه تحدث عن الكواكب المعروفة في وقته وحدد أبعادها عن الأرض، مثلا، القمر عنده يبعد عن الأرض 128 ألف ميل، بينما هي عند علماء ناسا الآن 238,900 ميل.

سردية توينبي بدت أكثر تماسكا من سردية المسعودي، فقد تلا حديثه عن بزوغ لحظة الوعي لدى الإنسان حديثا عما يسميه “الأويكومين”؛ أي الجزء المتمدين المسكون من العالم بحسب فهم الإغريق، وحدده في آسيا الكبرى، على اعتبار أن أوروبا تعد من الناحية الجغرافية شبه جزيرة كبيرة في آسيا. وقال إن البشر وصلوا إلى الأميركتين قبل كولومبس عن طريق الجزء الشمالي الشرقي من آسيا. في هذا “الأويكومين”، فإن الإنسان العاقل الأول ظهر في شرق أفريقيا، وعن طريق انتقاله عبر باب المندب عرف الإنسان الأول في اليمن الزراعة والتعدين فيما يسميها الثورات التكنولوجية حوالي 70,000 إلى 40,000 قبل الميلاد. ويرى أن الزراعة أساسا هي التي مهدت لقيام حضارات كبرى في العالم القديم. لكن إذا كانت رحلة البشر، وهي التي تعنينا هنا قد بدأت من شرق أفريقيا، وانتقلت إلى اليمن، فما الذي فعلوه بعد ذلك؟ هل كان اليمن هو نقطة الانطلاق الثانية للبشر؟ يشير توينبي إلى هؤلاء الذين هاجروا من الواحات دون أن يحددها إلى منطقة الأمطار، ويتحدث هنا عن منطقة دجلة والفرات التي يراها أول حضارة نشأت على الأرض، وفي فصل تال يتحدث عن مصر دون أن يحدد مسار هؤلاء الذين استوطنوا مصر، هل جاءوا من اليمن، أم انتقلوا مباشرة من شرق أفريقيا عبر النيل؟ انشغل توينبي بالكيفية التي سيطر بها الإنسان الأول على المحيط الحيوي، ثم إنشائه للممالك والامبراطوريات وانسياحه في العالم القديم، الصين والهند وبقية وسط آسيا. وكذلك العالم الجديد قبل اكتشاف كولومبس له. وأستراليا واليابان تاركا فجوات كثيرة حول طرق انتقال البشر من منطقة إلى أخرى.

سردية المسعودي اختلفت في أهدافها عن توينبي وإن لم تختلف في المساحة التي تحرك فيها كل منهما، فبينما انشغل توينبي بالوسائل التي ابتكرها الإنسان لينشئ بها الحضارات وليسيطر بها على الأرض. سار المسعودي سيرا مختلفا. فقد اتفق مع توينبي على أن السريان الذين عاشوا في العراق هم أول ملوك الأرض بعد الطوفان، (توينبي لا يعترف بالطوفان ولا يرى أن هناك دليلا عليه). لكنه اختلف معه في الطريقة التي تعامل بها مع هؤلاء الملوك. المسعودي انشغل بسيطرة البشر على الآخرين دون أن تشغله الكيفية التي تقدمت بها الحياة من فترة إلى أخرى. تحدث المسعودي عن اليونان والروم والروس والفرس ومصر، ثم السودان التي عنى بها أفريقيا كلها، ثم الصقالبة الذين هم البشر الأوائل الذين استوطنوا أوروبا، ثم تحدث عن عاد وثمود، لينتقل بعد ذلك إلى الجزء الأكبر من كتابه وهو البعثة النبوية وما تلاها من أحداث حتى القرن الرابع الهجري وقت تأليف الكتاب.

ربما بدت أهداف الكتابين متباينة في التأليف، مع ذلك فإن طموحهما إلى سرد حياة البشر على هذا الكوكب يسوغ المقارنة بينهما، حتى وإن تناول كل منهما هذه الحياة من منظور مختلف عن الآخر.

إن هناك عددا من الملاحظات يمكن الخلوص بها من قراءة الكتابين. أهمها:

–    طبيعة العالم الذي وُصف في الكتابين.

–    طرق الاستدلال التي لجأ إليها كل منهما في الإقناع بأفكارهما.

–    معنى الحياة في كل من الكتابين.

إن طبيعة العالم في “مروج الذهب” مزدوجة، فالعالم ليس هو الظاهر فقط الذي يعيش فيها البشر وبقية الكائنات الحية. إن هناك عوالم أخرى محجوبة تعيش فيها كائنات أخرى، وهي ليست عوالم معزولة عن البشر، إنما تؤثر فيهم بطريقتها، وتظهر لهم بأشكال مختلفة. في نص طويل يتحدث المسعودي عن الإسكندر حين شرع في بناء الإسكندرية كانت تخرج كل ليلة دواب من البحر تأتي على جميع البنيان الذي بناه. فأقبل يفكر ما الذي يصنع، وهداه تفكيره إلى صنع ما يشبه الغواصة نزل بها إلى قاع البحر ومعه مصوران. وفي القاع رأي شياطين على مثال الناس رؤوسهم على مثال رؤوس السباع وفي أيدي بعضهم فؤوس ومناشير ومقامع. عادوا إلى البر، وقام هؤلاء المصوران بصنع تماثيل على هيئة الشياطين. وعندما خرجوا في الليل نظرت إلى صورها على البحر، فعادت ولم تعد بعد ذلك. مثل هذا تجده مبثوثا في أغلب الكتاب. والمسعودي يورده دون أن يعلق عليه.

أما توينبي فقد بدا العالم لديه مغلقا على نفسه، عالم وحيد في الكون حتى مع إمكانية وجود حياة على كواكب أخرى بعيدة، لكن يصعب في الوقت الذي ألف فيه الكتاب، وحتى الآن، الوصول إليها. لا آلهة خارج هذا العالم، إنما هي موجودة في ذهن البشر، ولا شياطين كذلك. ومنظوره للأديان منظور علماني، يرى أنها موجودة في الأرض لتلبية حاجات روحية لدي معتنقيها. هو يتعامل معها بوصفها ظاهرة اجتماعية لا يمكن تجنبها ولا تجاهلها، ومن ثم تتساوى عنده الآلهة، ولا يرى في أحدها حقا وفي الآخر باطلا.

واختلف الرجلان في طرق الاستدلال في القضايا التي يتحدثان فيها. اعتماد المسعودي الأساسي على أقوال منقولة عن الكتب السماوية، وأقوال منسوبة لأناس شاهدوا الوقائع أو سمعوا بها مثل حادثة الإسكندر، والمشاهدات الشخصية للمسعودي في رحلاته الكثيرة في العالم القديم، وقد أظهر حديثه عن الآثار المصرية وعن ملوك الفراعنة مدى النضج الذي كان عليه علم التاريخ في ذلك الوقت. ففرعون موسى اسمه الوليد بن مصعب، وهناك ملكة مصرية اسمها “دلوكة” بنت على بلاد مصر حائطا يحيط بجميع البلاد مازال أثره باقيا حتى عصر المسعودي، وقد رآه الرجل ووصفه وسماه “حائط العجوز”. ونبي الله يوسف هو الذي بنى الأهرام، والملك الذي كان في عهده ورأى رؤياه في البقر والسنابل اسمه الريان بن الوليد، ولا يكشف المسعودي عن مصادره لهذه الأسماء، وبخاصة أنه يشير إلى الكتابة الهيروغليفية ويؤكد عجزه عن فك رموزها، ومن ثم غابت عنه إحدى طرق الاستدلال المهمة في الحديث عن التاريخ. علم التاريخ في ذلك الوقت لم يكن ناضجا بما يكفي للاطمئنان إلى حكاياته في “مروج الذهب” ولا في الكتب القديمة كلها.

أمر توينبي مختلف، ولا يمكن هنا المقارنة ولا المفاضلة بين طرق استدلاله على قضاياه وطرق استدلال المسعودي، والأسباب في ذلك كثيرة. ربما وجه المقارنة الوحيد هو العقلية التي تقف خلف كل من الرؤيتين، وهنا بدا توينبي أكثر عقلانية ومنهجية وحذرا، بينما بدا المسعودي أقل تمحيصا لرواياته العجيبة.

لا يعكس “مروج الذهب” معنى الحياة بطريقة واضحة. لا يكشف عن جهد الإنسان في إعمار الأرض في أي منطقة زارها المسعودي أو تحدث عنها. لم يكن هذا من أهداف المسعودي في تأليفه للكتاب. إنما كان هدفه وصف الحياة وخاصة ما يتصل فيها بالملوك. أما توينبي فقد كانت خطته مختلفة، لذلك بدا كتابه أكثر تماسكا. فهو سعى منذ الفصول الأولى في كتابه إلى بيان الطريقة التي تكيف بها البشر مع البيئة في كل منطقة رحلوا إليها، ومن ثم كيفية السيطرة عليها.

مع ذلك، لا يمكن إنكار جهد المسعودي، ولا الحط من قيمة “مروج الذهب”. الكتاب يعكس رؤية للعالم في القرن الرابع الهجري، وهي رؤية يختلط فيها الواقعي بالأسطوري، والظاهري بالغيبي، وهو مستودع ثري للكيفية التي تنظر بها الأمم، كل منها للأخرى. أما توينبي فهو المؤرخ الأهم في القرن العشرين، وهو أحد أكبر المؤرخين في كل العصور.

ميدل إيست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى