العبرة عند المتقاتلين

واضح أنّ شيئاً ما يتحرّك على صعيد السياسة في سوريا بعد الجمود الكبير الذي تبع مؤتمر جنيف 2. ولكن هل يعني هذا أنّ حلاًّ ما يلوح في الأفق؟ وهل يحقق ذلك ما تطلبه الأغلبيّة الساحقة من السوريين أوّلاً، أي وقف معاناتهم والقتل والقتال العبثيّين؟

التفاوض بين السوريين، وبين القوى التي تتصارع على سوريا عبرهم، يتمّ اليوم عبر السلاح. ليس فقط بين الجيش النظاميّ والمعارضة المسلّحة، بل أيضاً مع «داعش» و»جبهة النصرة». لكن بدأت تتشكّل قناعة بأنّ هذا «التفاوض» القاتل عبثيّ، ولن يُسمح لأيّ طرفٍ أن ينتصر على الآخر، وإنّ ظنّ في مرحلةٍ ما أو في أخرى أنّه يستطيع الحسم عسكريّاً. وبالتالي فإنّ المسار نحو الحلّ يعني انتقال وسيلة التفاوض من السلاح إلى السياسة، على أسسٍ لا يُمكن أن تكون سوى الحرص على الإبقاء على سوريّا موحّدة وآمنة شعباً وأرضاً. من هنا يصعب على أيّ طرف تصوّر مثل هذا الانتقال إلى ساحة السياسة مع «داعش»، لأنّ مشروعها غير سوريّ. أمّا «جبهة النصرة» فبعد أن احتضنتها بعض أطياف المعارضة، في أفضل الأحوال لالتباسها حول مشروعها الحقيقيّ، اختارت هي أيضاً أن تنحو منحى «داعش»، خارجةً عن أيّ مشروع وطنيّ.

فماذا يُمكن أن تكون أرضيّة التفاوض السياسي إذاً؟

بدأت القناعة تترسّخ اليوم أنّ الحلّ لن يأتي من مؤتمر يُعقد بين موظّفين في جهاز الدولة السوري ومندوبي جهاز سياسي لمعارضة تمّ تنصيبها «ممثلاً شرعيّاً وحيداً للشعب السوريّ». فما الذي سيقدّمه «حكمٌ توافقيّ كامل الصلاحيّات»، إن لم يكن قادراً على وقف الحرب، وعلى طرح صيغة تجعل هذا التوافق مستداماً وقادراً على مواجهة «داعش» و»النصرة»؟ لا يُمكن توقّع أن تذهب المعارضة المسلّحة لمقاتلة المتطرّفين جنباً إلى جنب مع الجيش النظامي، ولن يعود الضباّط المنشقّون إلى جانب إخوتهم السابقين في السلاح، إلاّ إذا أحسّ الطرفان أنّ الحلّ المطروح يشكّل حافزاً يتخطّى الآلام الكبيرة التي تكبّدها الجميع.

من ناحية أخرى، أثبتت تجربة «المصالحات»، مهما كان تقييمها، أنّ التفاوض عليها قد جرى بين القوى المتصارعة على الأرض، وبين الدول التي تدعمها، وليس بين السياسيين. الجيش النظاميّ وأجهزة الأمن والميليشيات الموالية من جهة، وأطياف المعارضة المسلّحة المتنوّعة من جهة أخرى. وكانت إحدى أكبر مشاكل ذلك التفاوض في عدم تنسيق أطراف كلّ جهة بين مكوّناتها.

لكن، وعلى عكس ما يدّعيه البعض، لا يُمكن لتجربة «المصالحات» أن تؤسّس لحلّ مستديم. إذ أنّها لم تُعقَد إلاّ في مناطق محاصرة وكانت في الحقيقة نوعاً من الاستسلام لواقع الحصار الخانق، رأفةً بالمواطنين الذين أنهكهم القصف العشوائيّ، مثلما جرى في حمص. لكنّ الدرس الذي أعطته «المصالحات» هو أنّ هناك معارضة مسلّحة تضع في حساباتها المواطنين الذين حملت السلاح من أجل الدفاع عنهم أكثر من مشروعها الفكريّ أو السياسيّ، على عكس «داعش» و»النصرة»، وأنّ هناك في الجيش النظاميّ والقوى الموالية من لديه نفس الحرص، وبما هو أهمّ من الوفاء للسلطة.

في المقابل، تبقى مبادرة المبعوث الأمميّ حول «تجميد الصراع في حلب» طرحاً خياليّاً، إذا اقتصرت على التجميد ووقف إطلاق النار، وعلى حلب وحدها، من دون أن يكون هذا التجميد وما يحيط به هو بالتحديد عمليّة سياسيّة تنطلق من التفاوض بين المتقاتلين لتصنع حلاًّ سياسياً ذي مضمونٍ حقيقيّ. الهدنة يُمكن أن تريح المواطنين أيّاماً أو أسابيع قبل أن يعود الصراع ليتفجّر بشكلٍ أكبر.

لا بدّ من ترسيخ القناعة بأنّ وثيقة «جنيف 1» قد تمّ تخطّيها، وهي التي جرى وضعها عندما لم يكن الصراع في سوريا حرباً، وأنّ ما يجب بناؤه هو عمليّة سياسيّة توقف الحرب وتبني الثقة لمواجهة التطرّف.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى