مساحة رأي

العدالة الانتقالية في سوريا: بين المثاليات والواقع المرير

محمد الشماع

مع تتابع الحروب والصراعات، باتت العدالة الانتقالية مسارًا مُلحًا ومثاليًا تسعى الشعوب للخروج من الأزمات عبره، لكن في الحالة السورية، هذا المفهوم يبدو وكأنه طموح بعيد المنال أكثر من كونه أملًا واقعيًا. عندما ننظر إلى أرض الواقع، نجد أن المعوقات القائمة تتجاوز التصورات النظرية، وهو ما يجعل الحديث عن عدالة انتقالية في سوريا مليئًا بالتحديات التي لا يمكن تجاهلها.

رؤية العدالة الانتقالية: مثالية النظرية ومأساة التطبيق

العدالة الانتقالية في جوهرها تهدف إلى المصالحة الوطنية، جبر الضرر، ومحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات. تبدو في الأذهان كعملية تُنقذ دولة غارقة في الفوضى، لكن في سوريا، تبرز فجوة عميقة بين النظرية والتطبيق. واقع الانقسامات الطائفية، التدخلات الدولية، وغياب المؤسسات القضائية المستقلة يجعل من الصعب تخيّل تطبيق عدالة انتقالية على أرض الواقع دون اصطدام بجدار التحديات.

التجارب الدولية، وإن كانت ملهمة إلى حد ما، فإنها تُظهر أن العدالة الانتقالية ليست مسارًا سهلًا أو سريعًا. من جنوب أفريقيا إلى رواندا، وحتى الدول القريبة من الحالة السورية مثل العراق وليبيا، يبقى النجاح النسبي مرهونًا بتوافر ظروف قد تكون غائبة بالكامل في سوريا.

لماذا سوريا ليست مستعدة للعدالة الانتقالية؟

  • الانقسامات الطائفية والاجتماعية: عقبة البداية

عقود من التوترات الداخلية، التي تضاعفت مع سنوات الصراع الدامي، خلفت جروحًا عميقة بين مكونات المجتمع السوري. الحديث عن عدالة انتقالية يتطلب حدًا أدنى من التوافق بين الطوائف والجماعات، لكن في الحالة السورية، يبدو التوافق وكأنه حلم بعيد المنال. الطائفية تُعد وقودًا للصراع بدلاً من أن تكون فرصة للحوار.

  • غياب المؤسسات المستقلة: العدل مفقود

المؤسسات القضائية والإدارية السورية اليوم لا تمتلك مقومات النزاهة أو القدرة على إنفاذ العدالة. حتى إن وُجدت الإرادة لتطبيق العدالة الانتقالية، فإن البنية المؤسسية المنهارة أو الضعيفة ستظل حجر عثرة أمام أي مبادرة. النظام القضائي الحالي بحاجة إلى إعادة بناء جذرية، وهو أمر قد يستغرق عقودًا.

  • التدخلات الخارجية: أدوات تُعيق الحل

سوريا ليست نزاعًا داخليًا فحسب، بل هي مسرح لتصفية الحسابات الدولية والإقليمية. كل طرف خارجي يملك أجندة خاصة، وغالبًا ما تُعرقل هذه التدخلات أي محاولات لتوحيد الصف الداخلي أو بناء أسس للعدالة. طالما ظل الوضع مرهونًا بمصالح الأطراف الخارجية، فإن العدالة الانتقالية ستبقى رهينة المؤتمرات والبيانات دون أثر عملي على الأرض.

  • الأولوية الاقتصادية والمعيشية: طغيان الضروريات

الشعب السوري المُثقل بالجراح والانقسامات اليوم يضع احتياجات البقاء على قيد الحياة فوق أي اعتبارات أخرى. عندما تُصبح الأولوية لتأمين الطعام، المأوى، والخدمات الأساسية، فإن الحديث عن عدالة انتقالية قد يبدو بعيدًا عن متطلبات اللحظة.

تجارب مشابهة: دروس تحذيرية

لعل العراق وليبيا هما أكثر حالتين يمكن الاستشهاد بهما كأمثلة لتجارب فشلت في تطبيق العدالة الانتقالية. في العراق، تحولت المحاكمات بعد سقوط نظام صدام حسين إلى أداة لتصفية الحسابات الطائفية والسياسية، مما عمّق الانقسامات بدلًا من جسرها. أما في ليبيا، فكانت الفوضى السياسية والأمنية سببًا رئيسيًا في تعطيل أي محاولات للعدالة.

سوريا، على غرار هذين البلدين، تُعاني من تركيبة صراع معقدة لا تقتصر على الداخل فقط، بل تتشابك فيها الأطراف الإقليمية والدولية، مما يُضعف أي فرصة لتحقيق العدالة.

سيناريوهات المستقبل: ماذا بعد؟

إذا ظل الحال على ما هو عليه وفشلت الأطراف السورية في تطبيق العدالة الانتقالية، فإن السيناريوهات الواقعية تبدو قاتمة:

  1. 1. استمرار النزاع المسلح

غياب العدالة يُعزز شعور الانتقام، مما يدفع الأطراف المختلفة إلى مواصلة الصراع.

  1. 2. زيادة الفساد وضعف المؤسسات

غياب الإصلاح المؤسسي يعني استمرار الفساد وتعميق ضعف الدولة، مما يزيد الأوضاع سوءًا.

  1. 3. تفكك الهوية الوطنية

الانقسامات الحالية قد تؤدي إلى ترسيخ الهويات الفرعية (طائفية، عرقية) على حساب الهوية السورية الجامعة.

  1. 4. تصاعد التدخلات الخارجية

القوى الإقليمية والدولية ستظل تستغل الفراغ السياسي لتحقيق أجنداتها الخاصة.

نظرة غير متفائلة ولكنها واقعية

من الصعب أن نكون متفائلين ونحن ننظر إلى هذه التحديات. العدالة الانتقالية تتطلب إرادة سياسية، مؤسسات قوية، وشعب قادر على تجاوز الماضي لبناء المستقبل. لكن الواقع السوري الحالي بعيد جدًا عن هذه الشروط الأساسية. ما يمكن القيام به في هذه اللحظة ليس العدالة الانتقالية بمفهومها الشامل، وإنما خطوات تمهيدية قد تساعد في تخفيف التوترات وتأسيس قاعدة مستقبلية:

تعزيز الحوار المحلي بين المجتمعات.

-إصلاح تدريجي للمؤسسات القضائية والإدارية.

– تقديم تعويضات رمزية لتخفيف حدة الألم لدى الضحايا.

في النهاية، العدالة الانتقالية في سوريا ليست استحقاق اللحظة الراهنة، ولكنها قد تكون استحقاقًا مستقبليًا إذا تم العمل بشكل جدي ومتدرج على خلق البيئة المناسبة لها. حتى ذلك الحين، سيبقى التشاؤم هو الشعور المهيمن.

 

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على الفيسبوك

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على التويتر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى