العدالة والتنمية.. مصادر النفوذ والتأثير
حين تأسس حزب العدالة والتنمية وشكل الحكومات المتعاقبة منذ تأسيسه (الحكومة 58 وحتى الحكومة الحالية 62) وهو مستمر في الحكم بدون تداول للسلطة وبدون معارضة حقيقية، ذلك أن إردوغان يدعو الله دائما لتلك المعارضة بالبقاء لأنها لا تمثل له أي تحد. رئاسة الوزراء في يد حزب العدالة والتنمية منذ عام 2002 حتى اليوم.
ورث الحزب من حركة “الملي جوروش” خبرتها الانتخابية وماكينتها الحشدية القادرة على الوصول إلى الناس في مناطق الأناضول بالذات، وخصوصاً الأناضول الشرقي والأوسط، والأناضول الجنوبي الشرقي، التي يبلغ تعداد سكانها ما يزيد على خمسة وعشرين مليون نسمة، أي إن حزب العدالة والتنمية ورث عن حركة “الملي جوروش” قدرتها على التخطيط للحملات الانتخابية وبناء خطاب بسيط لرجل الشارع العادي المهمش، وفي الوقت نفسه الوعود المقرونة بالأفعال، والتي أكدها ذلك الجيل عبر خبرته في البلديات في فترة التسعينيات، والتي كان إردوغان فيها رئيس بلدية إسطنبول، ومليح كوجك رئيس بلدية أنقرة.
دور النساء
في كتابها “الإسلام والديمقراطية الليبرالية في تركيا، النساء الإسلاميات في معترك السياسة التركية” أشارت يسيم آرات (الكاتبة التركية) إلى دور النساء في التأثير والمشاركة والعمل من أجل الحزب. وعلى الرغم من أن دراستها كانت عن حزب الرفاه، الحزب الأكبر لحركة “الملي جوروش”، والذي وصل بأربكان إلى سدة رئاسة الوزراء فيما اعتبر وقتها حلما وخيالا غير ممكن، وهو ما قاد إلى لفت الانتباه للحركة الإسلامية في تركيا في العالم العربي، على وجه الخصوص، والتي استطاع زعيمها أن يشارك في حكومة ائتلافية ويصل إلى أن يكون رئيسا للوزراء، وكان في الحزب لجنة باسم “لجنة السيدات” لعبت دورا كبيرا في وصول إردوغان إلى أن يكون رئيس بلدية إسطنبول، أحد المصادر المهمة لنفوذ حزب العدالة والتنمية -في تقديرنا- استمرار دور النساء في الحضور الاجتماعي والسياسي من أجل بقاء الحزب ناجحا وقويا خاصة في فترات الانتخابات المحلية أو البرلمانية أو الرئاسية.
خطاب يمس العواطف
في انتخابات المحليات والبلديات التي جرت في مارس (آذار) عام 2014 فإن حزب العدالة والتنمية استطاع أن يكتسح البلديات الكبرى، كما هو الحال في بلديات إسطنبول وأنقرة التي فاز فيها مليح كوجك للمرة الخامسة على التوالي، وهو (أي مليح كوجك) من الجيل الجديد في الحركة الإسلامية التركية الذي صعد عبر نجاحه في إدارة البلديات في التسعينيات، وعبر عن وجه مختلف ذات طابع مدني للحالة الإسلامية لحزب “الرفاه”. فاز حزب العدالة بنسبة ما يقرب من 45% ولكن المهم -كما في الخريطة المرفقة- أنه اكتسح البلديات الكبرى، والفوز في البلديات هو السلم الأول في الحياة السياسية التركية نحو الفوز في أي انتخابات أخرى، وتعد البلديات هي قلب النظام السياسي التركي ومصدر قوته وحيويته، فالبلديات هي أساس حياة المواطن التركي من حيث تقديم الخدمات، بدءا من دفن الموتى وحتى تقديم الخدمات الاجتماعية، فضلا عن تقديم الخدمات الحياتية مثل الكهرباء والغاز والمواصلات.
علينا أن نتذكر أن البلديات والفوز فيها هي الجسر للتواصل مع الناس الذين يشعرون بالتواصل والإنجاز والحياة الحسنة، عبر اهتمام البلديات بخدماتهم وبقضايا البيئة والمعوزين والفقراء وذوي الاحتياجات الخاصة، بما في ذلك القضايا الثقافية المتعلقة بالفنون والجمال والندوات المختلفة التي لا تتوقف في تلك البلديات طوال العام، وفي القضايا كافة. ولا يجب أن ننسى أن البلديات كانت هي الجسر الذي عبر منه حزب الرفاه من قبل إلى قلب الحياة السياسية والاجتماعية، وورثها من بعده حزب العدالة والتنمية ولا يزال حتى اليوم. أي إن حزب العدالة والتنمية يتجه التصويت له في الزيادة منذ مجيئه إلى السلطة حتى وصل لما يمكننا القول: إنه النقطة النهائية لقدرته على الحشد الانتخابي.
المجتمع التركي مجتمع محافظ وما يزال خطاب حزب العدالة والتنمية هو الأكثر مساسا بأعصاب قوى التدين والمحافظة فيه، خصوصاً ما يتصل بالجانب الثقافي والحضاري والتاريخي، وأشواق استعادة عظمة الأتراك ووجودهم على خريطة العالم. كما أن قوى يسار الوسط، ممثلة في حزب الشعب، غير قادرة على تطوير خطاب مماثل، وهي تفقد قاعدتها الاجتماعية لصالح حزب العدالة والتنمية، وخاصة أن الحزب يحقق إنجازات اقتصادية هائلة، ويحمل خطابا اجتماعيا، والسيطرة على نصف مقاعد البرلمان أحد مصادر النفوذ الاجتماعي والسياسي للحزب الحاكم في تركيا منذ عام 2002.
دور رجال الأعمال
الـ”توسياد” هي جمعية رجال الأعمال الأتراك التي تعبر عن التيارات العلمانية، وهي أحد المفاتيح المهمة في التأثير على صناعة القرار في تركيا، إذ لا تزال تسيطر على 47% من النشاط الاقتصادي في البلاد، وقد نافسها في السيطرة على النشاط الاقتصادي في البلاد جمعية رجال الأعمال المتدينين الـ”موسياد”، وهي تعبير عن الطبقة الاجتماعية الجديدة التي تدعم –بقوة- حزب العدالة والتنمية التركي. وقد تأسست عام 1990، وحجم نشاطها الاقتصادي متزايد، وقد يجاوز العشرة مليارات دولار، ويصل عدد أعضائها إلى ما يزيد على (3500) شخص يملكون ما يقرب من عشرة آلاف شركة يعمل فيها ما يزيد على مليوني شخص.
هناك مجموعات اتحادات للمهنيين مثل: اتحاد الحقوقيين واسمه حودر HUDER، واتحاد المهندسين واسمه TEKDER، واتحاد الأطباء والصحة واسمه SAGLIK DER، وهناك نقابة للعمال تسمى الاتحاد النقابي لحق العمل (HAK IS) وهي ثاني أكبر نقابة عمالية في تركيا، فعدد المشتركين فيها يزيدون على (160) ألف عضو كان معظمهم من أعضاء اتحاد النقابات التقدمية DISK ، وهناك نقابة للموظفين اسمها MEMUR ، وأغلب هذه التكوينات المهنية تأسست في بدايتها مع حركة أربكان “الملي جوروش”، وورثها -فيما نعتقد- حزب العدالة والتنمية.
هناك الآلاف من مدارس الأئمة والخطباء، والآلاف من كليات الإلهيات ورئاسة الشؤون الدينية التي تسيطر على عمل المساجد، وهناك ما يطلق عليه اتجاه الموسوعة الإسلامية ISAM، وهي وقف مستقل، ولكنه يتبع رئاسة شؤون الديانة، وله مبنى كبير على الجانب الآسيوي من إسطنبول، وفيه هيئة ضخمة وكبيرة من المتخصصين في علوم الشريعة المختلفة، وفي علوم الاقتصاد والاجتماع والقانون وغيرها، كما أن أحد أعمدة الدولة التركية، وهو المجلس الأعلى للجامعات (YOK)، وقد كان أحد أهم معاقل العلمانية، أصبح بيد الداعمين لحزب العدالة والتنمية، وهو ما جعل رئيسه الجديد ضياء الدين أوزجان يدعم دخول المحجبات الجامعة، حتى قبل أن يصدر تعديل دستوري بذلك. هذا فضلا عن الآلاف من الجمعيات الأهلية وقوى المجتمع المدني، خاصة التي تقوم بأعمال إغاثية مثل (IHH) والأوقاف الثقافية والنشرية التي تدعم الحزب ومنها –مثلا- وقف العلوم والفنون (BILIM VE SANAT VAKF) وكان المسؤول عنه رئيس الوزراء التركي الحالي أحمد داود أوغلو.
الترجمات الدينية
لا بد من الإشارة –هنا- إلى حجم الترجمة الضخمة من الكتب العربية، خصوصاً الكتب التي يمثلها التيار الإسلامي في مصر على وجه الخصوص، فكل كتب سيد قطب مترجمة هناك، وكل كتب الشيخ محمد الغزالي السقا، وكل كتب الشيخ سيد سابق، وكل كتب الأستاذ حسن البنا والإخوان. ولا ريب أن قطاعات واسعة من الشباب الذين جاؤوا للأزهر في مصر في التسعينيات، قبل أن يمنعوا من ذلك من قبل العسكر والتيار العلماني، تشربوا من حركة الإخوان المسلمين بمن في ذلك رئيس الدولة نفسه الذي كان طالبا نشطا أواخر الستينيات في الاتحاد العالمي للطلاب المسلمين، وربما يفسر ذلك الجانب العاطفي المتصل بالعلاقة الخاصة مع جماعة الإخوان المسلمين في مصر ومحنتها بعد 3 يوليو (تموز) وعزل الرئيس المصري الإخواني من السلطة. هذا بالإضافة –طبعا- للأسباب المتصلة بالروابط المشتركة بين الفريقين على المستوى السياسي. كل هذه القوى تعمل كقوى متدينة ومحافظة لدعم حزب العدالة والتنمية، وهي تفسر لنا قوة نفوذه وسيطرته على الحياة السياسية التركية منذ عام 2002 وحتى اليوم.
خلاصة من بحث كمال حبيب ‘العدالة والتنمية التركي من الديمقراطية المحافظة إلى تاكيد النفوذ’، ضمن الكتاب 101 (مايو 2015) ‘الإسلاميون والعمق الاجتماعي في العالم العربي وتركيا’ الصادر عن مركز المسبار للدراسات والبحوث- دبي.
ميدل ايست أونلاين