العدوان الأميركي على العراق: الرد مسألة وقت

 

رغم إقرار واشنطن بأن عدوانها على «الحشد الشعبي» لم يكن تناسبياً مع استهداف صاروخي أدى إلى مقتل أميركيّ في كركوك، وتمسّكها بأن الهجوم مرتبطٌ بتلك الحادثة فقط وحوادث أخرى طالت مصالحها في العراق طوال العام الماضي، ترفض دوائر القرار في المحور المقابل هذا التفسير و«الربط السطحي» لعدوان أسفر عن أكثر من 25 شهيداً و40 جريحاً، إذ إن اقتناع محور المقاومة هو أن الاعتداء رسالةٌ لجميع المعنيين من طهران إلى بغداد فدمشق وصولاً إلى بيروت. فحجم إخفاقات واشنطن وتل أبيب، وحلفائهما الخليجيين، طوال 2019، في السياسة والميدان، لم يحظَ بـ«ردّ» يعيد الاعتبار إليهم، إلى أن وصل حال الأدوات الأميركية إلى السؤال عن جدوى «التحالف معها».

هذا المشهد جعل حادثة كركوك قشّة تقسم «ظهر بعير» محمّلاً بأكلاف جمّة، فجاء «الردّ» رسالة لإعادة الاعتبار والحضور في منطقة تريدها واشنطن فارغة من أي حضور لمحور المقاومة. عمليّاً، استطاع الأميركي «الردّ» على الاستهدافات المتكرّرة له، لكنّه منح المحور المقابل «حقّ ردّ مناسب».

استمر تصدير ردود الأفعال العراقية والأميركية، حتى ساعة متأخرة من ليل  الاثنين ، على عدوان الولايات المتحدة الدموي، الذي استهدف مقارّ لـ«الحشد الشعبي» في منطقة القائم (حوالى 400 كلم غربي العاصمة بغداد)، عند الحدود العراقية ــــ السورية. أبرز تلك المواقف عراقيّاً تصريحٌ لمصدر مسؤول في مكتب آية الله علي السيستاني، الذي «أدان الاعتداء الآثم»، مشدّداً على ضرورة «احترام السيادة العراقية وعدم خرقها بذريعة الردّ على ممارسات غير قانونية يقوم بها بعض الأطراف». المصدر حمّل السلطات مسؤولية «التعامل مع تلك الممارسات واتخاذ الإجراءات الكفيلة بمنعها»، داعياً إيّاها إلى «العمل على عدم جعل العراق ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية، وتدخل الآخرين في شؤونه»، في تكرار لمواقف «المرجعية العليا» السابقة، التي تصدّرها على نحو شبه أسبوعي.

الموقف المقتضب كان جدليّاً، إذ رحّب به البعض واستند إليه لتبيان موقفه، كزعيم «التيّار الصدري»، مقتدى الصدر، وطرح آخرون إزاءه جملة من الأسئلة. صمتُ هؤلاء دلّ على «صدمة» من مقاربة «النجف» التي دانت الاعتداء لكن موقفها فُهِم «تبريراً مبطّناً للردّ الأميركي»، في إشارة إلى استهداف قاعدة عسكرية في كركوك الأسبوع الماضي، أسفر عن مقتل متعاقد مدني أميركي وإصابة آخرين. الموقف الذي عالج «الفعل» (استهداف المصالح الأميركية)، لم يعالج بالقدر عينه آليات محاسبة «ردّ الفعل» (العدوان)، خصوصاً أن واشنطن تبنّت ذلك رسمياً، في حين ما زال «الفاعل» مجهولاً حتى الآن، كما يعبّر هؤلاء. أما الصدر، فانطلق من موقف السيستاني، لكنّ بيانه كان متناقضاً ويعكس توتّراً في مقاربة العدوان.

 وإذ رأى أن «العراق وشعبه ما عاد يتحمّل هذه التصرفات الرعناء»، جدّد استعداده لإخراج القوات الأميركية المنتشرة على طول العراق بـ«الطرق السياسية والقانونية»، علماً بأن كُلّاً من الكتلتين البرلمانيتين «سائرون» (التي يدعمها) و«الفتح» (تجمع القوى والأحزاب السياسية المؤيّدة لـ«الحشد») سبق أن أعلنتا عزمهما على تشريع قانون لإخراج تلك القوات، قبل أن تسحباه لـ«أسباب مجهولة» حتى الآن. الصدر، رغم انتقاد بعض الفصائل صاحبة التصرفات «غير المسؤولة»، أبدى استعداده أيضاً للتعاون معها لو أصرّ الأميركيون على البقاء، خاتماً بيانه برفض تحوّل العراق إلى «ساحة لتصفية الحسابات السياسية والعسكرية».

ورغم هذه الدعوات، تنشط الطبقة الحاكمة بجميع مكوّناتها على خطّ الاشتباك الإيراني ــــ الأميركي في البلاد، وتشارك في لعبة «تصفية الحساب» بين الجانبين، عن إرادة ومن دونها، لأن وجودها من منظورها بات مرتبطاً بهذا الصراع. هؤلاء يقرّون في مجالسهم الخاصّة بأنّ «من الطبيعي أن يكون العراق ساحة لمواجهات مماثلة» لما يمثّله من أرضيّة خصبة على المستويات كافة: موقعه وحجم ثرواته، وتركيبته الاجتماعية.

على خطّ موازٍ، كان الموقف الرسمي «مخيّباً» لواشنطن، وفق وصف دبلوماسيتها، مع إدانة بغداد الشديدة للاعتداء الذي وقع، وعزمها على اتخاذ إجراءات تحول دون تكرار ذلك، قد تكون ردّاً سياسيّاً على تصعيد ميداني جاء بعد سلسلة من الإخفاقات الأميركية في السياسة والميدان على حدّ سواء. فاجتماع «المجلس الوزاري للأمن الوطني»، برئاسة رئيس الوزراء المستقيل عادل عبد المهدي، أكد أن «قوات التحالف الدولي»، وتحديداً الأميركية، «تجاوزت بشكلٍ خطير قواعد عملها» بـ«انفرادها بعمليات دون موافقة الحكومة العراقية، فضلاً عن أن الاستهداف يعرّض أمن وسيادة البلاد للخطر».

وأضاف البيان: «القوات الأميركية اعتمدت على استنتاجاتها الخاصّة وأولوياتها السياسية وليس الأولويات العراقية التي تقرّر الحاجة إلى الاستعانة بشركائنا لا أن يقوم الآخرون مهما كانت المبررات بشكل منفرد وبالضد من إرادة الدولة ومصالحها العليا»، مكرّراً رفض «تحوّل العراق إلى ساحة للاقتتال، أو طرفاً في أي صراع إقليمي أو دولي».

هذا الموقف استتبع أيضاً بقرار الخارجية العراقية استدعاء السفير الأميركي لدى بغداد، وعزمها على «التشاور مع الشركاء الأوروبيين المنضوين في التحالف، للخروج بموقف موحّد في ما يخصّ آليات العمل، ومستقبل القوات في العراق».

إضافة إلى الحراك البرلماني المرتقب، والحديث عن احتفاظ الفصائل، وتحديداً «كتائب حزب الله ــــ العراق»، بحقّ الرد في «الزمان والمكان المناسبين»، كان بارزاً جدّاً ما كشفه عبد المهدي عمّا جرى قبل ساعات من الاستهداف، إذ أعلن تلقّيه اتصالاً من وزير الدفاع الأميركي، مارك أسبر، نقل إليه الأخير فيه «عزم واشنطن على ضرب الكتائب»، لكنّه رفض ذلك وحذّر من تبعات أي هجوم مماثل، مطالباً بإجراء مناقشات مباشرة، «لكنني أُبلغت أن القرار قد اتُّخذ».

 وأضاف أنه «حاول إبلاغ الفصيل العراقي بالضربة الوشيكة» من دون أن يقدّم أي تفصيل، مشيراً إلى أن «الطائرات الأميركية التي نفّذت الضربة لم تأتِ من داخل العراق»، في وقت سرت فيه معلومات عن أن الهجوم جاء عبر طائرات F-15E Bombers، تابعة للسرب 494 المعدّل، وقد أقلعت من قاعدة «الموفق السلطي» في الأردن. وتضيف المعلومات أن واشنطن أبلغت قبل أسبوعين تقريباً عبد المهدي رسمياً أنّها ستردّ «بحسم» على أي اعتداء على مصالحها، وأنه أبلغ الفصائل بذلك.

أما واشنطن، فرأت في العدوان «حقّاً مشروعاً» من جرّاء الاستهداف المستمر لقواتها، مؤكّدة على لسان مساعد وزير خارجيتها، ديفيد شينكر، أنها «لا تسعى إلى تصعيد النزاع مع إيران»، وما جرى رسالة «بعد أشهر من ضبط النفس». وقال شينكر إن «الضربات كانت ردّاً على هجوم كركوك»، معترفاً بأن «الردّ» لم يكن تناسبيّاً أبداً، بل الهدف «رسالة إلى طهران بأن واشنطن تأخذ حياة الأميركيين على محمل الجد»، مضيفاً: «لقد كان ردّاً خطيراً لكنه مناسب». كذلك، صرّح الممثّل الخاص لشؤون إيران في الخارجية الأميركية، بريان هوك، بأن «واشنطن امتنعت عن الرد رغم سلسلة الهجمات المرتبطة بإيران، بينها 11 هجوماً صاروخيّاً على منشآت أميركية وأخرى تابعة للتحالف منذ تشرين الأوّل/أكتوبر الماضي».

استنكرت إيران اتهام الولايات المتحدة لها بالضلوع بدور في الهجوم على ​القوات الأميركية​ في ​العراق​، قائلة إن هذه «المزاعم غير الموثقة بأدلة لا تبرّر قصف وقتل الناس خلافاً للقوانين الدولية». ونفى المتحدث الرسمي باسم الحكومة في طهران «أي دور في الهجوم على القوات الأميركية»، مضيفاً: «من المثير للسخرية أن ​أميركا​ ما زالت تحتل أجزاءً من العراق وتقصف شعبه وتدّعي بلا حياء أنها تحترم سيادة ​الحكومة العراقية​».

على النقيض، أعلنت البحرين تأييدها للقصف الأميركي، وقالت في بيان لخارجيتها ، إن «المملكة تعرب عن تأييدها للقصف الذي شنته الولايات المتحدة، والذي استهدف منشآت كتائب حزب الله في العراق وسوريا… رداً على الأعمال الإجرامية المتكررة التي تقوم بها هذه الكتائب»، مشيدة بما سمّته «الدور الاستراتيجي للولايات المتحدة في التصدّي للجماعات الإرهابية».

 

 

صحيفة الاخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى