كتب

العدوان الإسرائيلي على اليهود العرب: نظرة آفي شلايم

أسعد أبو خليل

نال كتاب آفي شلايم الأخير، «ثلاثة عوالم: مذكرات عربي – يهودي»، الكثير من التعليق والردود في الشرق والغرب. وقد تناقل الكثير من وسائل الاعلام وصفحات التواصل الاجتماعي مضمون الكتاب، وخصوصاً في ما يتعلّق بقصة التفجيرات ضد أهداف يهوديّة في بغداد سنتَي ١٩٥٠ و١٩٥١. وقد عثر شلايم على أدلّة جديدة في هذا الصدد. وبعض المراجعات أخطأت في ذكر أن التفجير ضد كنيس بغداد في يناير ١٩٥١ كان على يد شخص عربي، لكن الكتاب يذكر تورّط جاسوس إسرائيلي سيَّر عمل هذا العربي. والرشوة استطاعت السيطرة على عناصر في الشرطة وفي عالم الجريمة العربيّة.

آفي شلايم عمل لعقود أستاذاً في تاريخ الشرق الأوسط في جامعة أوكسفورد، وهو أصبح الخبير الشرق أوسطي الأبرز في الجامعة بعد تقاعد ألبرت حوراني. ولقد أشرف على عدد من الأطروحات المتعلّقة بالعالم العربي، لكن اهتمامه انصبّ على الصراع العربي – الإسرائيلي ولم يبرز، خلافاً لحوراني، في دراسة جوانب من التاريخ العربي خارج نطاق الصراع. وهو كان من أنصار الدولتيْن، وقد كنتُ أتعامل مع المديح الذي كان يناله من عرب ومن أنصار القضيّة في بريطانيا بحذر شديد لأنه حمل السلاح في دولة العدوّ. هو هاجر إلى بريطانيا، حيث استقرّ وعمل. لكنه في كتابه الجديد ينبذ «حلّ» الدولتيْن وينادي بالدولة الواحدة للقضاء على نظام الأبرثايد.

موضوع اليهود العرب يأخذ حيّزاً كبيراً من السجالات، وهو عادَ إلى السطح بقوّة في السنوات الأخيرة لسببيْن رئيسيّيْن. أولاً، إن الحركة الصهيونيّة المعاصرة وجدت أن أفضل طريقة لطمس حق العودة الفلسطيني هو في الموازاة بين تهجير الشعب الفلسطيني القسري وبين الهجرة الطوعيّة (في أكثرها) لليهود العرب من الدول العربيّة. والموضوعان لا يتوازيان لأن الشعب الفلسطيني لم يكن له يد في ما جرى لليهود العرب الذين، بحلول ١٩٤٨، أصبحوا طابة للاستغلال من قبل حكومات إسرائيل المتعاقبة. ثانياً، تضخّ المنظمات المدنيّة العربيّة ووسائل الإعلام الممَوَّلة من حكومات «الناتو» وجورج سوروس، الكثير من الدعاية عن اليهود العرب. هناك حملة منظمة، حتماً، لتصوير اليهود العرب على أنهم مجرّد ضحايا أبرياء للوحشيّة العربيّة. وأصبح اليهود العرب أبطالاً حتى في قتالهم ضد العرب. هناك صحافي لبناني كتبَ مقالة واحدة في «لوريان لوجور» عن بطولات اليهود الذين هاجروا من أوروبا (في مخالفة للحدّ من الهجرة إلى فلسطين يومها) إلى لبنان ثم انتقلوا في معظمهم إلى فلسطين، حيث قاتلوا السكان الأصليّين وطردوهم من أرضهم. هذه المقالة تناقلها الإعلاميّون الغربيّون، والنفحة الصهيونيّة فيها أدّت إلى توظيف «واشنطن بوست» للصحافي اللبناني. مَن قال إن الصحافة الغربيّة تغلق الأبواب بوجه العرب عندما يكتبون بنفَس متعاطف مع الحركة الصهيونيّة؟ وهناك كتّاب لبنانيّون جدد يُقحمون موضوع الهولوكست ويهود لبنان في قصصهم لعلمهم أن ذلك يزيد من حظوظ ترجمة أعمالهم إلى اللغات الأجنبيّة.

سامي الجندي (البعثي المنشقّ) كان ربما أوّل من أضفى مسحة إنسانية رومانسيّة على كل اليهود العرب. شخصيّة «باسم» اليهودي في كتاب «عرب ويهود» يختصر عند سامي الجندي حالة اليهود العرب. كان باسم دائماً على وشك البكاء، أو هكذا أراد الجندي تصويره لاستدرار الدموع. باسم قرّر الهجرة إلى فلسطين المحتلة والالتحاق بدولة العدوّ، لكنه بكى عندما أخبر صديقه سامي بذلك. كان على القارئ أن يتعاطف معه عندما قرّر أن يهاجر إلى فلسطين، كما طلبت غولدا مائير ذات مرّة من العرب أن يتعاطفوا معها لأنها مرغمة على قتلنا. طبعاً، عانى بعض اليهود العرب من تمييز ومن عداء بسبب النظرة إليهم كحلفاء لإسرائيل. أميركا وضعت في معسكرات اعتقال في سنوات الحرب العالميّة الثانية مواطنين أميركيّين لأنهم يتحدّرون من أصل ياباني. والألمان عانوا من ذلك في الحربين: الأولى والثانية، كما أن عرباً ومسلمين تعرّضوا لاعتداءات واعتقالات ظالمة في عام ٢٠٠١ وبعدها فقط لأنهم عرب ومسلمون. آفي شلايم في كتابه يشرح هذا السياق الضروري عن النظرة العربيّة نحو اليهود بعد ١٩٤٨ لفهم وضع اليهود العرب.

إنّ الضخ الصهيوني في ثقافتنا العربيّة (من خلال الجمعيّات والإعلام الجديد) شوّه تاريخاً كاملاً. وائل الحلاق لم يكن يمزح عندما قال إنه يفضّل وضع الذمّي في الدولة الأمويّة على وضع العربي والمسلم في الغرب الأوروبي (مع اعتراف الحلاق بعدم تحقّق المساواة في الدولة الإسلاميّة). لكن الوجود اليهودي الكبير في الدول العربيّة (خارج الجزيرة) دليل على تسامح تاريخي انعدم في الدول الغربيّة نحو اليهود. اليهود كانوا عرباً، والهوية العربيّة لم تكن تتناقض مع الإيمان باليهوديّة. وقد قامت الدعاية النازيّة بضخ معاداة لليهوديّة في بلادنا: دور السفير الألماني في العراق، فريتز غروبا (وكان ناطقاً بالعربيّة) معروف وهو ابتاع جريدة «العالم العربي» لنشر حلقات من كتاب «كفاحي» (ص. ٢٢). وقد شجّع غروبا الجيش العراقي على بعث خطاب معادٍ لليهودية والإمبريالية على حدّ سواء (وهو صادق الملك غازي الأوّل). وبتأثير من غازي وغروبا مارست حكومة العراق سياسات تمييزيّة مثل صرف يهود من الخدمة والدولة وتحديد أعداد المقبولين في المدارس والجامعات. و«الفرهود» الذي تلا سقوط حكومة رشيد عالي الكيلاني في ١٩٤١ تحوّل في الدعاية الصهيونيّة إلى «هولوكست منسي» («الفرهود» كلمة من أصل فارسي تشير في العراق إلى سطو الجنود العثمانيّين على الدكاكين).

يقول شلايم إن السفير البريطاني في بغداد، كيناهان كورنواليس، يتحمّل «أكبر قسط من المسؤوليّة عن المجزرة». وحتى إيلي خدوري (المؤرّخ الصهيوني المعروف) يعترف بأن «اليهود في بغداد تعرّضوا للقتل والسطو كمؤيّدين لبريطانيا» وليس بسبب دينهم (راجع مقالة خدوري «نهب البصرة الفرهود في بغداد» في الفصل ١٩ من كتاب خدوري «مذكرات سياسيّة عربيّة ودراسات أخرى»، ص. ٣٠٧-٣٠٨). وقد وافق المؤرّخ العراقي الآخر، مجيد خدّوري على لوم بريطانيا. الفرهود كانت فظيعة: يومان من القتل والسطو تعرّض فيهما ١٧٩ يهودياً للقتل، إضافة إلى السطو على ٥٨٦ دكاناً و٩١١ منزلاً (وقُتل نحو مئة من غير اليهود، معظمهم من المشاركين في النهب، كتاب شلايم، ص. ٤١. كنعان مكيّة لم يكترث للأرقام في حديثه عن الفرهود في كتاب «جمهوريّة الخوف» الذي نشره في البداية باسم سمير خليل. ذكر «مئات» من القتلى اليهود). وفظاعة الفرهود أنه صدم يهود العراق لأنهم لم يتعرّضوا لمثل ذلك في تاريخهم. ويستشهد شلايم بالمؤرّخ مارك كوهين، الذي درس مذكرات عراقيّين يهود، وتوصّل إلى اقتناع بأن اليهود لم يروا في الفرهود جريمة لاسامية في سياق تاريخ لاسامي (كما في أوروبا)، بل حدثاً فظيعاً نتيجة «عوامل سياسية خارجيّة معقّدة» (ص. ٤٢). طبعاً، كنعان مكيّة والليبراليون – المحافظون لا يرون في الفرهود إلا جريمة معادية للسامية من قبل عرب معادين للسامية.

المشكلة أن الثقافة الليبرالية العربية تصرّ على أن اليهود العرب كانوا كلّهم معادين للصهيونية، وأن فكرة اتهام أحدهم بالصهيونية ليست إلا معاداة لليهودية. هذه نفس النظرة الصهيونية الغربيّة. أيّ يهودي عربي يُتهم بالتجسس أو التخريب لمصلحة إسرائيل هو ضحيّة لمعاداة السامية العربيّة. هذا ما حصل يوم ألقت السلطات المصريّة القبض في ١٩٥٤ على شبكة ما عُرف بقضية «لافون». الغرب اليوم يجعل من أيّ مُتهم في إيران بالتجسس للغرب وإسرائيل ضحيّة بريئة يجب إطلاق سراحها لأن الغرب وإسرائيل لا يقومان بأعمال تجسّس. لكن السجلّ التاريخي واضح: كان هناك تعاطف بين اليهود العرب نحو إسرائيل: ليس كلّ اليهود العرب، لكنْ الكثير منهم. يقول شلايم: «تعترف أمّي بأن الكثير من اليهود تعاملوا مع الهزيمة العربيّة في فلسطين برضى غير مستور تماماً، وحتى بفرح» (ص. ٦٥). وكرستين شولتز، الخبيرة في شؤون يهود لبنان وسياسة إسرائيل نحو لبنان، تقول في كتابها «يهود لبنان» إن اليهود في لبنان احتفلوا بتقسيم فلسطين في نوفمبر ١٩٤٧. وكان الحدث كارثة بالنسبة إلى العرب. وتجمّع نحو ٢٠٠٠ يهودي في قلب كنيس بيروت للاحتفال بولادة دولة يهودية (وإن بالاسم، لكن بشرعية دوليّة مشبوهة) «وفي حمأة حماستهم الصهيونية، سافر عدد من اليهود الشباب جنوباً وخرقوا الحدود للالتحاق بالهاغاناه (ص. ٧٠). وليس هناك أدنى شكّ أن الدولة الإسرائيليّة كانت على تواصل مستمرّ مع الجالية اليهودية في لبنان (ومع الجاليات الأخرى). كان يهود بيروت مثلاً يصوّتون بنسبة ١٠٠٪ لحزب الكتائب بناءً على العلاقات السرّية بين حزب الكتائب (الذي كان مموّلاً من إسرائيل منذ الخمسينيات)، وحكومة العدوّ (راجع الكتاب الشامل عن انتخابات ١٩٧٢ الصادر عن الأمن العام اللبناني في حينه).

المُهين في شهادة آفي شلايم أن العرب كانوا دائماً متهمين بالكذب إذا ما اتّهموا أي يهودي بجريمة ما. حتى عندما يُتهم إسرائيلي أو إسرائيليّة بالتجسس في داخل العالم العربي، فهناك قطاع عربي كبير (من إعلاميّيين وعاملين وعاملات في منظمات مدنيّة مموّلة من حكومات الناتو وسوروس) يهبّ للدفاع عن الإسرائيلي. الإسرائيلي واليهودي العربي لا يمكن أن يتجسّسا. هذا ما يقوله الإعلام الغربي الصهيوني لنا. الحكومة العراقيّة نشرت من قبل عن شبكة موساديّة زرعت القنابل في بغداد. والعرب تحدّثوا من قبل عن مخطط إسرائيلي إجرامي لتهجير اليهود العرب. أكثر من مئة ألف من اليهود العراقيّين لجأوا إلى إسرائيل بعد موجة التفجيرات. فتّش آفي شلايم عن الأدلّة وعثر على محضر تحقيق الشرطة في بغداد. المحضر كان موجوداً، لكن العربي لا يُصدَّق. فقط عندما يقول نفس الكلام إسرائيلي أو يهودي غربي فإن الاتهام يصبح جدّياً. حتى في حالة إيلي كوهين في سوريا، عاجلت الحكومات الغربيّة إلى اتهام الحكومة السوريّة بمعاداة السامية عندما كشفت هويّة كوهين. وكنعان مكيّة يبدأ كتابه «جمهوريّة الخوف» بتفاصيل عن إعدام يهود في بغداد بعد وصول البعث إلى السلطة في ١٩٦٨. لكن لم يكن كل الذين أُعدموا من اليهود. هو جعل من الإعدام عمليّة اسمية، فيما يتحدّث منشقّون عن صدّام عن حقيقة كشف مخطّط حقيقي ضد النظام (مثلما كُذّبت الحكومة العراقيّة عندما تحدّثت عن مخطط شاهنشاهي ضد النظام من قبل عبد الغني الراوي. لكن الراوي اعترف بذلك من مقرّه في الرياض في حديث إلى «الحياة» في سنواته الأخيرة). الصهيونيّة انتشرت بين اليهود العرب، والحكومات العربيّة لم تحسن التعامل مع مضاعفات إنشاء دولة إسرائيل. والغرب المنافق كان يعتبر أن اليهود العرب سجناء إن هم بقوا في بلادهم، وهم مطرودون من قبل العرب لو سُمح لهم بالهجرة. الدولة العدوّة كانت مستميتة لزيادة عدد اليهود وهي كانت مستعدة للتضحية بحياة اليهود العرب الذين عانوا من احتقار وعنصريّة من قبل اليهود الغربيّين. كتاب آفي شلايم لم يكشف عن جديد، بل ردّد ما كان العرب قد قالوه من قبل. هل كنا مثلاً نحتاج إلى المؤرّخين الجدد في إسرائيل كي نعرف أن الشعب الفلسطيني طُردَ من أرضه بالقوّة المسلّحة من قبل عصابات صهيونيّة؟

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى